النهاردة هنتكلم عن أسطورة الجميلة داناي Danaë وقصتها مع المطر الذهبي..

وفقًا للأساطير الإغريقية، أكريسيس Acrisius ملك أرجوس سمع من عرافة نبوءة بتقول إن حفيده هيقتله في يوم من الأيام. وعلشان يمنع ده من أنه يحصل، أخد بنته الوحيدة داناي وحبسها في برج من البرونز (في روايات أقدم للأسطورة يُقال إنه حبسها في زنزانة تحت الأرض مصنوعة من البرونز برضه)، المهم أن البرج ده كان له مدخل واحد بس وحجرة واحدة أعلاه – بدون شبابيك وبفتحة سقف واحدة – محبوسة فيها داناي مع خادمتها.
زيوس Zeus كبير الآلهة أخد باله من اللي بيحصل ومن معاملة أكريسيس لبنته داناي، يتدخل بقى علشان يوقف المهزلة دي؟ تؤ تؤ.. أتدخل علشان ينام مع داناي! زيوس لما شاف داناي هام بيها حبًا وقرر أنه يضيفها لطابور مغامراته مع نساء البشر. زيوس، علشان يوصل لداناي في محبسها المنيع، أتنكر في صورة مطر من الذهب. وفي يوم من الأيام وداناي قاعدة على سريرها في حجرتها أعلى البرج حست بالدنيا بتغيم وشافت سحابة حجبت الشمس عن فتحة السقف، وفي ثانية السحابة بدأت تمطر ذهب، والذهب وقع على جسمها وسريرها.. واللي حصل بعد كده معروف طبعًا.
بعد تسعة أشهر من اليوم ده، داناي خلفت ولد واسمته بيرسيوس Perseus (أيوه هو بعينه البطل الشهير مُنقذ أندروميدا وقاتل الميدوسا). أكريسيس لما عرف أن بنته خلفت أتجنن وحاول يعرف منها مين الأب، ولما اعترفت له أنه زيوس مابقاش عارف يصدقها ولا لأ. أكريسيس كان لسه خايف من النبوءة بس في نفس الوقت مكانش يقدر يقتل داناي وابنها خوفًا من غضب الآلهة وخاصًة زيوس. تجنبًا للورطة اللي وقع فيها دي، أكريسيس أخد داناي ورضيعها بيرسيوس وحطهم في صندوق خشبي ورماه في البحر.
الصندوق الخشبي فضل سارح في البحر مدة طويلة لحد ما لقاه صياد من جزيرة سيريفوس Serifos اسمه دايكتس Dictys. دايكتس لما فتح الصندوق وشاف داناي في حالة إغماء ورضيعها مقطع نفسه من العياط عطف عليهم وأخدهم لبيته وساعدهم وراعاهم. المشكلة بقى مكانتش في دايكتس ولكن في أخوه بوليديكتس Polydectes ملك جزيرة سيريفوس. بوليديكتس لما عرف بوجود الست الغريبة دي وابنها في بيت أخوه راح يشوفهم، وأول ما عينه وقعت على داناي اشتهاها لنفسه. بوليديكتس فضل يقرف في داناي ويعرض عليها الزواج بس هي كانت بتصده بشتى الطرق متحججة بابنها الصغير ورغبتها في الاهتمام بيه.
المهم عدت سنين وسنين وبيرسيوس كبر وبقى شاب قوي، ساعتها بوليديكتس أتقرب من داناي تاني وقال لها “مالكيش حجة بقى يا ست الكل!” بس داناي اتحججت تاني بأن بيرسيوس مش موافق على زواجها منه (وبيرسيوس فعلاً مكانش بيطيقه). بوليديكتس فكر في فكرة من خلالها يتخلص من بيرسيوس كعقبة في طريق حصوله على داناي وكوريث مش من صلبه لمملكته. بوليديكتس استغل أن بيرسيوس نصف إله وأن أحلام البطولة مالية دماغه وعرض عليه يروح يقتل الميدوسا Medusa الوحش اللي بيحول أي حد يبص له لحجر وهو على يقين أن بيرسيوس مش هيرجع تاني.
معظمنا عارفين القصة من هنا وأن بيرسيوس هينجح في قتل الميدوسا وهيقطع رأسها وهيبقى سلاحه المفضل. المهم بيرسيوس رجع لجزيرة سيريفوس لقى الأفراح والاحتفالات منصوبة علشان الملك هيتجوز من داناي! بيرسيوس أتجنن ودخل على الملك وجنوده وحاشيته ممسكًا برأس ميدوسا وحولهم كلهم لحجر وأخد أمه وسابوا الجزيرة خالص.

المثير للسخرية بقى أن بعد مرور سنين عديدة بيرسيوس راح يشارك في مسابقة لألعاب القوى، وهو بيرمي القرص رياح هبت حولت مساره ناحية رجل عجوز وسط جمهور المشجعين فالقرص طير رأسه ومات. الرجل العجوز ده هو أكريسيس.. أبو داناي وجد بيرسيوس.
أول حاجة تلفت انتباهنا في الأسطورة هي مصير أكريسيس اللي فضل يفرك ويلف حوالين نفسه وعمل اللي مايتعملش وفي الأخر لقى المصير اللي كان بيحاول يهرب منه وعانى أضعاف ما تنبأت به النبوءة. كعادة النبوءات في الأساطير فهي بتعكس رغبة أو خوف دفين بيراود الشخص صاحب النبوءة، وده معناه أن أكريسيس خايف من خسارة مُلكه وحياته، وعلشان كده حبس بنته الوحيدة (ولو يقدر كان قتلها لولا خوفه من ربّات الانتقام) بغرض قطع ذريتها. بدل ما يواجه خوفه ويحاول يفهم أسبابه، أكريسيس قرر يفضل يهرب منه ويقطع أسبابه لحد ما خسر مش بس حياته ومُلكه ولكن بنته كمان. ولو تعلمنا أي شيء من الأساطير الإغريقية والرومانية – على سبيل المثال لا الحصر زي جايسون وأوديب وروميلوس وريموس – فهي استحالة مواجهة القدر اللي قوته كانت تعتبر أكبر من قوة الآلهة أنفسهم.
اللطيف في الأسطورة دي كمان إزاي في الأعمال الفنية اللاحقة، سواء المكتوبة أو المرئية، داناي اتحولت لصورتين متناقضتين تمامًا.. صورة العاهرة وصورة القديسة. فيه قراءات للأسطورة بتوصم داناي لأنها باعت جسدها مقابل الذهب، وبيستندوا للرواية القائلة إن داناي مارست الجنس مع أحد الأغنياء في المملكة مقابل المال واللي قدر يوصل لها من خلال رشوة الحراس والخادمة وداناي نفسها، ولما حملت منه ألفت قصة زيوس وأمطار الذهب علشان تفسر وجود الذهب في غرفتها. وفيه قراءات أخرى – ودي تحديدًا ظهرت بعد دخول المسيحية – بترسم داناي في صورة قديسة وبتشبه حملها بحمل السيدة مريم وأمطار الذهب بالنور الإلهي اللي تسبب في الحمل.
صورتين على النقيض تمامًا، لكن في رأيي الاتنين مجحفين في حق داناي كشخصية رمزية.. كأنها كامرأة حُصرت بين دورين فقط: يا تكون في براءة وطُهر القديسين، يا تكون عاهرة تبيع جسدها مقابل الذهب، متغاضين عن الظروف اللي أتحطت فيها قهرًا ومتغاضين عن فكرة وجود أدوار عديدة أخرى بين النقيضين دول اللي الفرق الوحيد بينهم الاستسلام والتصرف. يعني لما داناي تقرر الاستسلام للسجن اللي فُرض عليها بلا أي ذنب تبقى قديسة والذهب اللي هبط عليها ده يبقى إلهي، في حين أنها لو اتخذت موقف ما واتصرفت وعملت حاجة يبقى طبعًا علشان تبيع جسدها مقابل الذهب!


لو شوفنا محنة داناي بعيدًا عن الدورين دول هنلاقي أن بيرسيوس كانت تذكرة داناي الوحيدة للخروج من سجنها، فحملها ببيرسيوس سواء من زيوس أو أي رجل آخر كان الغرض منه الخروج من السجن اللي كان مُقدر لها تفضل فيه طول عمرها، مش السعي ورا القدسية ولا ورا المتعة. وبيرسيوس مكانش مجرد تذكرة داناي للخروج من سجن أكريسيس ولكن، كامتداد لها، أصبح مصدر قوتها وبقى هو السبب في الحفاظ على حريتها وتخلصها من بوليديكتس وقرفه.. بقى هو فعلاً قوتها اللي اتولدت من رحم معاناتها، والذهب الحقيقي اللي كسبته.
وصورة داناي وأمطار الذهب تتساقط عليها من أشهر الصور اللي حازت اهتمام الرسامين على مر العصور والنتيجة كانت مئات من اللوحات، كل لوحة بتفاصيلها بتغير شوية من الموقف ومن شخصية داناي وبتعكس رؤية الفنان للأسطورة.. دي أمثلة ولكم الحكم:




روعه شكرا لك اسلوب رائع ماشاء الله
إعجابإعجاب
شكرًا يا غادة.. تسلمي 🙂
إعجابإعجاب