آيو وصدمة الاغتصاب

النهاردة هنتكلم عن أشهر ضحية من ضحايا زيوس Zeus.. الأميرة الجميلة آيو Io

آيو كانت ابنة ملك مدينة آرجوس Argos اليونانية وكانت طبعًا جميلة جدًا لدرجة أنها لفتت انتباه زيوس وقعد يطاردها وهي تصده وتهرب منه لحد ما اغتصبها. مين بقى اللي كانت بتشمشم ورا زيوس وعايزة تقفشه متلبس وهو بيخونها؟ أكيد زوجته الإلهة هيرا Hera اللي أول لما حست أنه بيلعب بديله، كعادته يعني مش هيشتريها من بره، نزلت الأرض تشوف بيهبب إيه..

زيوس بعد ما اغتصب آيو حس بقدوم زوجته، وفي حالة من الارتباك والخوف حوّل آيو المسكينة، اللي لسه ما استوعبتش صدمة الاغتصاب، لبقرة! هيرا نزلت الأرض لاقت زيوس واقف بيصفّر جنب بقرة لونها أبيض في مشهد عبثي بلا أي حيثية كده، فسألته إيه البقرة دي يا زيوس؟ قال لها لأ عادي أنا كنت بتمشى ولاقيتها في وشي. طبعًا هيرا مش عبيطة وكانت فقساه من الأول، فأبدت إعجابها بالبقرة وطلبت من زيوس أنها تاخدها تربيها عندها. زيوس، في الموقف المنيّل اللي هو فيه ده، لم يجرؤ على الاعتراض وقال لهيرا خديها عادي وأنا مالي.

كل ده حصل وآيو المسكينة مش مستعوبة أنها فقدت جسمها وصوتها واتحولت لبقرة كل اللي تقدر عليه أنها تخور (تقول “مووو مووو” يعني) استنجادًا بأي حد لكن للأسف محدش فهمها ولا حد عرف أنها الأميرة آيو.

هيرا أخدت البقرة وحبستها وولت مهمة مراقبتها لآرجوس بانوبتيس Argus Panoptes.

آرجوس بانوبتيس ده بقى كان كائن عملاق عنده مائة من العيون منتشرة من رأسه حتى قدميه، وطبعًا هيرا ولته مهمة حراسة آيو بسبب عيونه التي لا تنام.. حتى لو بعض من العيون نامت فالباقي بيفضل صاحي وهكذا. بعيدًا عن شكل آرجوس بانوبتيس الكابوسي، قدرته على المراقبة الدائمة دي هي اللي أنتجت لنا فكرة البانوبتيكون Panopticon اللي اتكلمنا عليها قبل كده واللي بترمز لسيطرة السلطة الكاملة على الأفراد الخاضعين لها من خلال زرع الخوف وتعزيز وهم المراقبة الدائمة.

المهم، زيوس لما عرف بمصير آيو وأنها أصبحت سجينة لآرجوس بانوبتيس بعت رسوله هيرميز Hermes لتحرير آيو. هيرميز اضطر يلجأ للخديعة علشان يعرف يسهّي آرجوس فقعد يغني له ويحكي له حواديت لمدة أيام لحد ما تأكد أن عيونه كلها نامت وقتله.. وبالفعل قدر يحرر المسكينة آيو اللي لسه محبوسة في جسد بقرة.

هيرا لما عرفت ثارت من الغضب وأمرت بتخليد ذكرى آرجوس بانوبتيس بأنها استخدمت عيونه لتزيين ريش الطاووس، وقررت تكمل انتقامها من آيو بأنها أرسلت دبانة – ذبابة – في أثر آيو وأمرتها أنها تفضل تطاردها وتزن في ودنها طول ما هي حية.

آيو يا عيني فضلت تجري في الأرض وجابتها من مشرقها لمغربها وهي على شكل بقرة بسبب الدبانة اللي مش عايزة تسيبها في حالها، وفي رواية من الروايات وآيو هايمة على وجهها كده قابلت بروميثيوس Prometheus وهو مقيد بالجبل ويلاقي عذابه الأبدي. بروميثيوس عرف أن دي الأميرة آيو وقال لها ماتفقدش الأمل لأن هيجي اليوم اللي هترجع لصورتها البشرية تاني وهتستقر في مصر وذريتها هتبقى سلسلة من الملوك والأبطال.

وقتها بقى زيوس، أخيرًا، قلبه رق وحن وقعد يترجى هيرا أنها ترفع عقابها عن آيو واعترف لها بكل حاجة وقال لها رجلك أبوسها يا ست الكل بس سيبي البنت الغلبانة دي في حالها. وبالفعل هيرا سامحته والدبانة سابتها في حالها وزيوس رجع آيو لصورتها البشرية وساعتها بس اكتشفت أنها حامل من زيوس.

أسطورة آيو من أشهر الأساطير المتعلقة بالاغتصاب وأكثرهم حزنًا لأنها بترصد المعاناة النفسية والجسدية والإجتماعية اللي بتمر بيها ضحية الصدمات الشديدة وتحديدًا صدمة الاغتصاب.

آيو بعد ما زيوس اغتصبها على طول حولها لبقرة، فالانتهاك الجسدي ده أخد صورة مادية ومعنوية. تحول آيو لبقرة بيرمز لإحساسها بفقدان سلطتها على جسدها، ده غير أن فقدانها إنسانيتها وتحولها لحيوان بيعكس إحساسها بنظرة المجتمع لها وأنها بقت dehumanized بشكل ما، وده اللي بيحصل للأسف مع معظم ضحايا الاغتصاب. وناخد بالنا كمان أن في الأسطورة آيو حاولت تتكلم وتستنجد بأي حد تقابله علشان تحكي له اللي حصل لكن كل اللي بيطلع منها كان خوار، فهي مش بس فقدت جسدها دي فقدت صوتها كمان وقدرتها على التواصل كنتيجة للصدمة اللي تعرضت لها.

بعد كده الأسطورة بتتوسع في رصد الجانب النفسي-الإجتماعي للصدمة وبتورينا أن الضحية بتضطر تعيش كسجينة لكائن جسده مليء بالعيون كلها مُسلطة عليها. آرجوس هنا هو طبعًا رمز واضح جدًا للمجتمع ككل اللي بيتحول لسجن بانوبتيكون كبير الضحية بتُجبر على أنها تعيش فيه بشكل دائم مع العيون اللي بتلاحقها بنظرات الاتهام واللوم والعار. وحتى بعد ما الضحية بتقدر تهرب من السجن ده زي ما آيو عملت بتفضل عايشة مع مشاعر الذنب والخزي المتمثلة في الدبانة اللي قعدت تلاحق آيو وخلتها تفضل تجري من نفسها زي المجنونة. وهنا يكمن الحزن في الأسطورة.. أن بالرغم من هروب الضحية من السجن (العائلة، المجتمع.. إلخ) إلا أنها – أوقات كتير – أينما ذهبت بتفضل حبيسة نفسها ومشاعرها السلبية اللي تكونت بسبب الصدمة.

حد ممكن يقول لي بس آيو في الأخر رجعت لهيئتها البشرية ونبوءة بروميثيوس اتحققت وبقت زي الفل. ده حقيقي، وقد يكون ده إشارة للتعافي فعلاً، بس العديد من القراءات النفسية للأسطورة بتوضح أن رجوع آيو لهيئتها البشرية مش نهاية سعيدة أوي زي ما احنا متخيلين.

في رواية الشاعر أوفيد Ovid للأسطورة بيقول أن بعد ما آيو رجعت لشكلها الطبيعي فضل يتملكها الخوف من النطق، لأن كل مرة بتفتح بُقها كانت خايفة يطلع خوار مش كلام مفهوم، كأن الخوف ده من فقدان الجسد والصوت فضل عايش معاها لأخر عمرها.

ده غير أن دخول بروميثيوس في الموضوع وتنبؤه بالنهاية السعيدة عزز من فقدان آيو لدورها كعنصر فاعل في القصة.. قصتها! في الكتابة الإبداعية مثلاً، عادًة ما بيُنصح الكتاب الجدد بالابتعاد قدر المستطاع عن إقحام النبوءات في قصصهم، لأن النبوءة، كأعبط نوع من أنواع الـ foreshadowing، بتأثر على إرادة البطل ودوره كعنصر فاعل وبتحوله لعنصر سلبي أو ترس هيوصل لنهاية محددة له مسبقًا (طبعًا فيه نبوءات بتتكتب بحرفية لتفادي ده بس الموضوع مش سهل خالص). المهم، لو رجعنا لأسطورتنا هنلاقي أن مش بس آيو فقدت دورها كعنصر فاعل لما تم اغتصابها ولما تم إخراسها وتحويلها لبقرة غصب عنها ولما تم سجنها ووضعها تحت أعين آرجوس بانوبتيس، لأ ده كمان سلبناها الدور الفاعل لما فرضنا عليها نسخة بروميثيوس من “النهاية السعيدة” بأنها هتستقر في مصر وهتتجوز ملك وهتفضل تزرب في أطفال!

كفاية أن بعد ما آيو بترجع لهيئتها البشرية بتكتشف أنها حامل من زيوس، وكأن موت آرجوس وغفران هيرا ورأفة زيوس مانجحوش في محو الأثر اللي هيفضل حي جواها.

….

دول ورقتان بحثيتان لطاف جدًا بيربطوا بين صدمة الاغتصاب والأسطورة اللي حابب يقرأهم:

“The Io Syndrome: Symptom Formation in Victims of Sexual Abuse” – S. Mayr & J. L. Price

“Io and Trauma in Ovid’s Metamorphoses: Rape and Transformation” – M. Sawyer


اترك رد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s