ميديا بين الثورة والعقاب

النهاردة هنتكلم عن شخصية مثيرة للجدل – وفي الأغلب مغضوب عليها – في عالم الأساطير الإغريقية وهي ميديا Medea

وهنبتدي القصة من عند البطل الإغريقي جاسون Jason اللي باباه كان مُقدّر له إنه يحكم المملكة اللي عايشين فيها بس أخوه – عم جاسون – شقلطُه وبقى هو الملك وحبس أخوه. جاسون بقى لما كبر وطالب بحقه وحق والده في العرش، عمه أوكل له مهمة شبه مستحيلة وأشترط عليه إنه لو عايز يبقى الملك فعلاً لازم يروح مملكة كولخيس Colchis ويجيب الصوف الذهبي الشهير من هناك.

والصوف الذهبي The Golden Fleece ده ليه قصة طويلة عريضة مش وقتها دلوقتي، بس باختصار هو الصوف الخاص بكبش من كباش زيوس. الكبش ده كان مقدس وله جناحات ولما تم التضحية بيه الصوف بتاعه بقى مِلك لمملكة كولخيس وفي حراسة تنين مابينامش.

طبعًا بما إن جاسون كان عامل فيها بطل الأبطال قال أروح أجيب الصوف الذهبي وماله! وبنى سفينة جمع فيها أشهر أبطال الإغريق وقتها، منهم هرقل Heracles، واسمى السفينة أرجو Argo وبسبب اسم السفينة أُطلق عليه هو والأبطال اللي معاه اسم The Argonauts أو الرحلة الأرجونية. وكعادة كل الرحلات الأسطورية، جاسون وأصحابه قابلهم تشكيلة متميزة من الوحوش والمصائب والغرائب لحد ما وصولوا لكولخيس.

مين بقى اللي أول ما شافت جاسون وقعت في حبه وقررت إنها تساعده يحصل على الصوف الذهبي؟ بالظبط.. ميديا. ميديا كانت ابنة ملك كولخيس وكان معروف عنها إنها كانت واسعة الحيلة وبتمارس السحر كمان. بجانب إنها كانت بتحذره من المصاعب اللي هتقابله علشان يعمل حسابه، ميديا كانت بتدي جاسون وصفات سحرية وتعاويذ وحاجات من دي علشان يعرف يوصل للصوف الذهبي، زي مثلاً ما أدته سائل ما يرشه على التنين اللي مابينامش فاتقلب زي سبت البصل وراح في سابع نومة. وفي النهاية جاسون فعلاً حصل على الصوف الذهبي وميديا هربت معاه ورجعت مع الرحلة الأرجونية إلى مملكة جاسون.

وبما إن عم جاسون كان راجل دنيء ومعفن رفض برضه يسلم الحكم لجاسون على الرغم من تنفيذه للشرط. فجاسون استعان للمرة الحفنتلاف بميديا الداهية اللي قدرت تتخلص من عم جاسون عن طريق إقناع بناته – باستخدام السحر والشعوذة – إنهم يقتلوه. ولما الناس عرفت بالهباب اللي هببته ميديا تم نفيها هي وجاسون من المملكة وراحوا اتجوزوا وعاشوا في كورينثيا Corinthia لفترة طويلة.

الأسطورة ليها أكتر من نهاية بس النهاية الأشهر هي اللي جاءت في رواية الشاعر الإغريقي يوربيديس Euripides واللي بيقول لنا فيها إن جاسون حب يتقرب من ملك كورينثيا عن طريق الزواج من بنته، وساعتها قرر إنه يهجر ميديا وأولاده منها في سبيل الحصول على شابة أجمل وأصغر (عايز حش رقبته برضه). فراحت ميديا عملت إيه بقى؟ جابت خنجر ودبحت ولادها!

وده يفسر لنا ليه هي من أكتر الشخصيات الأسطورية اللي مغضوب عليها زي ما قولنا في الأول.

السؤال هنا بقى هل ميديا فعلاً شخصية شريرة مختلة مجردة من المشاعر ولا للقصة بُعد آخر؟ بس بما إن الأساطير أصلاً قصص رمزية فأكيد لحدوتة ميديا بُعد آخر ممكن نفسره بأكتر من شكل.

معظم القراءات الأكاديمية للأسطورة بتشوف ميديا كشخصية مثيرة للجدل لأنها بتمثل تحدي صارخ للنظام المجتمعي الإغريقي القائم على العائلة، المسمى بالأويكوس Oikos، واللي بيحصر المرأة في دور الزوجة\الحبيبة المخلصة والأم المتفانية. ميديا في الأسطورة مش مجرد حبيبة مخلصة ولكن تقريبًا هي السبب في بطولة جاسون اللي من غيرها كان ولا هيعرف يعمل حاجة وهيرجع من كولخيس قفاه يقمر عيش. وفي مقابل كل تضحياتها دي، جاسون في النهاية قرر إنه يسيبها على اعتبار إنها هتقعد تربي في العيال وخلاص. القصة هنا بتفكرنا شوية بأسطورة أريادني – لو تفتكروا – اللي ساعدت ثيسيوس في دخول المتاهة وقتل المينوتور واللي ثيسيوس بنى بطولته على حسها، وفي الأخر لما هربت معاه رماها على جزيرة لوحدها المعفن وكمل هو رحلته. الفرق بقى إن ميديا رفضت تستسلم لنمط الفتاة الضحية وضربت بعرض الحائط كل القيم الإنسانية والمجتمعية المفروضة عليها كزوجة وأم وقتلت أطفالها علشان ترجع تستحق لقب البطولة اللي تنازلت عنه بمزاجها لجاسون. ناخد بالنا إن فكرة البطولة في الأساطير مكانتش مرتبطة بخير وشر.. البطل هو عكس الضحية، البطل هو القوي حتى لو قتل وسرق واغتصب والأساطير اللي حكيناها قبل كده أكبر دليل. وده بيخلي جريمة ميديا ثورية أكتر منها انتقامية.

طبعًا علشان الذكاء أنا عارفة، موضوع قتل الأطفال ده رمزي مش بنقول للأمهات روحوا سخنوا حلة وأسلقوا ولادكم دلوقتي. يعني مثلاً في أسطورة فيلوميلا، أختها بروكني عملت حاجة مشابهة وقتلت ابنها علشان تنتقم من جوزها. قتل الابن هنا بيمثل قطعها للعلاقة بينها وبين جوزها ورغبتها في القضاء على نسله.

بس على عكس بروكني، ميديا قوة كاسحة زي قوى الطبيعة كده مابتترددش إنها تقتل وتدمر وعندها من الدهاء و”الشر” اللي يكفي لده ويفيض. قبل ما تقتل ولادها، ميديا قتلت البنت اللي كان هيتجوزها جاسون وباباها الملك، وبكده هي دمرت حياة جاسون الحالية والمستقبلية، كله علشان ترجّع التوازن للأمور وتفهمه إن اليد العليا هي يدها.

<تحذير حرق> اللي عملته ميديا فكرني باللي عملته دينيرس تارجاريان في نهاية مسلسل صراع العروش لما حرقت المدينة وجابت عليها واطيها على الرغم من استسلام المدينة لها. دينيرس مكانتش مدفوعة بالانتقام بس ولكن برغبة في السيطرة وفرض إرادتها حتى لو على حساب اللي بتحبهم وعلى حساب مئات الأبرياء كمان.

في رواية يوربيديس، القصة بتنتهي بأن ميديا بتستدعي عربة إله الشمس هيليوس Helios – اللي هو جدها برضه – وبتركبها وبتطير بيها في السماء كإشارة لسموها الفعلي والمجازي فوق خيانة جوزها وفوق القيم الإنسانية والمجتمعية المرتبطة بضعفها. وهنا ممكن نسأل هل أطفالها كانوا هم الأضحية اللي كان لازم تقدمها علشان توصل للمرحلة دي من العلو والسمو؟ في الأساطير والأديان فيه قصص كتير عن التضحية بالأبناء من أجل التقرب من الآلهة، هل ممكن نعتبر اللي عملته ميديا نوع من التضحية للتقرب من منزلة الآلهة المتمثلة في ركوبها لعربة هيليوس في نهاية القصة؟

فيه ناس تانية بتشوف إن وجود ميديا في حياة جاسون كان بمثابة التدخل الإلهي وإنه مجرد ما أخلف وعده لها حرمته من النعمة اللي كان فيها، لكن الجزء الأكبر من عقابها وقع على نسله (مابيفكركوش بحاجة ده؟).

وبعيدًا عن المزنق النسوي الإلحادي الجميل اللي احنا دخلنا فيه ده، الأسطورة ليها بُعد إنساني ماينفعش نغفل عنه.

في النهاية جاسون لما بيتصدم إن ميديا قتلت ولادهم بيقول لها – بتصرف – “يا بنت المهبوشة باللي عملتيه ده إنتي أذيتي نفسك زي ما أذيتيني!” جاسون عنده حق، بس مش يمكن ده فعلاً اللي ميديا عايزاه.. إنها تؤذي نفسها؟ ليه بنجري على الاستنتاج إن قتل ميديا لأطفالها هو فعل انتقامي المقصود بيه إلحاق الألم بجاسون في حين إن ممكن جدًا الانتقام ده يكون موجه لذاتها.

 فيه ناس كتير لما بيتعرضوا للأذى أو الخيانة من الآخرين بيعاقبوا نفسهم بدلاً من معاقبة الآخرين لاقتناعهم بإن هم نفسهم سبب في المشكلة. وده اللي بيحصل عادةً في العلاقات المسيئة لما الفرد الضعيف في العلاقة بيلوم نفسه على ضعفه وتورطه مع الشخص المسيطر والوضع بيتطور لشعور بالذنب وكراهية الذات وإيذاء النفس اللي بيتجسد في صورة أفعال أو إيذاء فعلي للجسد. يمكن ميديا حست بالذنب والندم على كونها وهبت حبها وحياتها للشخص الغلط. ماننساش كمان إن ميديا ضحت برضا والدها وحياتها في المملكة علشان خاطر جاسون.. فاعترافًا بمسئوليتها في الفشلو ده وعقابًا لنفسها على اللي عملته، حرمت نفسها من أكتر حاجة بتحبها في الدنيا: أطفالها.

بالنسبة لي دي أكتر التفسيرات المقنعة لأنها بتمثل الـ self-sabotage في أبهى صوره. ميديا كان ممكن تموّت نفسها، بس هي ماعملتش كده لأن الموت هيكون راحة ليها وهي عايزة تحس بالألم لأنها مقتنعة باستحقاقه. ده غير إنها ارتكبت جريمة بشعة علشان رؤية العالم الخارجي ليها يتفق مع رؤيتها المشوهة لنفسها فمايبقاش فيه مجال للشك إنها فعلاً شخص سيء، وده اللي هي عايزة تثبته لنفسها، أو أي شخص بيمارس إيذاء النفس عايز يثبته لنفسه. وأعتقد في الحالة دي ميديا تستحق شفقتنا مش كراهيتنا.

دمتم رفقاء بأنفسكم.


رأيان حول “ميديا بين الثورة والعقاب

اترك رد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s