النهاردة هنتكلم عن مغامرة من مغامرات البطل أوديسيوس Odysseus أثناء رحلة عودته لمملكته بعد اشتراكه في حرب طروادة ولقائه الشهير مع العملاق بوليفيموس Polyphemus..

معظم الكتاب اللي اتكلموا عن حرب طروادة قالوا إن حصار الإغريق لطروادة لحد دخولهم المدينة نفسها استغرق بتاع تسع أو عشر سنين، فطبيعي إن بعد انتهاء الحرب كل الجنود كانوا عايزين يرجعوا بيوتهم ومنهم طبعًا البطل أوديسيوس ملك إيثاكا. الحرب خلصت من هنا وأوديسيوس أخد السفينة والرجالة بتوعه وابحروا ناحية إيثاكا. في طريق رجوعهم لاقوا جزيرة كده كان باين من بعيد إن فيها فواكه وغنم، فأوديسيوس نزل هو وجنوده وأخدوا معاهم أوعية من الخمر – اللي لسبب ما كان لسه معاهم منها كتير – علشان يقدموها لأهل الجزيرة مقابل الأكل.
المهم نزلوا على الجزيرة وفضلوا ماشيين فيها شوية ماشفوش حد خالص لحد ما لاقوا كهف مليان أكل وشرب، وبما إنهم جعانين قاعدوا ياكلوا لحد ما شبعوا. بعديها بشوية حسوا بالأرض بتتهز من حواليهم وخطوات ضخمة بتقرب منهم لحد ما شافوا السايكلوبس بوليفيموس واقف على باب الكهف..
نوقف هنا شوية ونفهم إيه الـ cyclops دول. السايكلوبس في الأساطير الإغريقية هو عملاق معروف عنه إنه ماعندوش غير عين واحدة بس في رأسه. فيه روايات بتقول إن السايكلوبس دول هم أولاد جايا وأورانوس – اللي عملوا الكون – وإنهم اتحبسوا في باطن الأرض تارتاروس بعد ما أخوهم كرونوس ثار عليهم وعلى الحاج الوالد وأخصاه (اتكلمنا على الأسطورة اللبش دي قبل كده). جيه بعد كده زيوس، ابن كرونوس، حررهم واستفاد من خبراتهم ويُقال إنهم هم اللي عملوا له صاعقة البرق وعملوا لبوسايدون شوكته الثلاثية الشهيرة الترايدنت. فيه روايات تانية بتقول إن السايكلوبس دول كائنات عملاقة زي كل الكائنات العجيبة اللي كانت موجودة ساعتها وإن معروف عنها غضبها الشديد وافتراس البشر لدرجة إن زيوس عزلهم في جزيرة لوحدهم وحطلهم شوية غنم وقال لهم ارعوه وازرعوا وعيشوا حياتكم.. ده طبعًا لحد ما أوديسيوس ابن المنحوسة هبط عليهم هو وجنوده.
نرجع للحدوتة.. السايكلوبس اللي أوديسيوس ورجالته دخلوا كهفه وأكلوا أكله اسمه بوليفيموس، ولحظهم المهبب على دماغهم بوليفيموس كان ابن إله البحر بوسايدون Poseidon. بوليفيموس لما شاف منظرهم وهم قاعدين في الكهف وبياكلوا من أكله من غير استئذان هاج وماج وراح قافل مدخل الكهف بصخرة كبيرة وقال لهم مفيش خروج من هنا وأنتم من النهادرة ملكي، وفي وسط هوجة الغضب بتاعته دي أخد اتنين من رجالة أوديسيوس ودشدش دماغهم في الحيطة وأكلهم وقال لهم إنه هيفضل حابسهم في الكهف لحد ما يخلص عليهم كلهم.
طبعًا أوديسيوس ورجالته اترعبوا ومكانوش عارفين يعملوا إيه.. عددهم مش كبير واستحالة يعرفوا يتغلبوا على بوليفيموس جسديًا، ده غير إنهم حتى لو موتوه مش هيعرفوا يزقوا الصخرة الضخمة اللي على مدخل الكهف. المهم أوديسيوس جاتله فكرة وراح عزم على بوليفيموس من الخمر اللي معاه وقال له دي حاجة مستوردة وتستاهل بُقك. بوليفيموس داق الخمر وعجبه جدًا وطلب من أوديسيوس يفرغ له منه تاني. وفي وسط ما هو مستكنيص وعامل دماغ سأل أوديسيوس عن اسمه، أوديسيوس قال له “ولا حد”، بوليفيموس العبيط افتكر إن اسم أوديسيوس “ولا حد” فعلاً وقال له “أنا عاجبني ولا حد، وعلشان كده هاكل ولا حد أخر واحد”.
بوليفيموس فضل يشرب لحد ما اتدلق ونام. أول ما اتأكدوا إنه نام، أوديسيوس وجنوده جابوا عود خشب من اللي بوليفيموس بيستخدمه للهش على غنمه وقعدوا يسنّوه لحد ما بقى مدبب وحطوه في النار ورفعوه سوا ناحية بوليفيموس اللي كان رايح في عاشر نومة وخزقوا بيها عينه الوحيدة.
طبعًا بوليفيموس قام من النوم وهو بيصرخ بشكل مرعب وفضل يلوش بإيديه يمين وشمال لحد ما عرف يزق الصخرة اللي على المدخل ويخرج، قعد يصرخ بصوت عالي لحد ما السايكلوبس التانيين اللي على الجزيرة جريوا عليه وسألوه “مين عمل فيك كده؟”.. فراح بوليفيموس قال لهم “ولا حد! ولا حد اللي عمل فيا كده”.. سألوه تاني “يابني مين اللي عمل العملة السودا دي قول لنا بس” وهو يصرخ فيهم تاني “ولا حد! ولا حد!”
السايكلوبس التانيين قالوا لأ ده أهبل بقى وسابوه ومشيوا.
بوليفيموس قعد قدام الكهف بتاعه يعيط وهو ماسك عينه، أوديسيوس ورجالته عرفوا يتدحلبوا من جنبه وخرجوا من الكهف وجريوا على السفينة بتاعتهم بسرعة.
شخصية بوليفيموس مادة خصبة جدًا إنها تتصوركوحش كاسر مرعب مشوه وده غالبًا كل اللي إحنا بنشوفه في الأفلام واللوحات اللي بتصور الأسطورة دي، لكني مش قادرة أشوف بوليفيموس كده وكل مرة بقرأ الأسطورة بيصعب عليا وبحس إن أوديسيوس هو الشخص الشرير في الحدوتة. هو آه طبعًا مش حاجة حلوة إنه بياكل بني آدم وانتقامه كان مبالغ فيه بس لو شوفنا الموضوع من وجهة نظره هنلاقي إنه لا يرقى إنه يكون وحش شرير أو مخادع خالص.
أولا،ً موضوع أكل لحوم البشر ده طبيعة في فصيلة السايكلوبس كلهم، زي ما إحنا بناكل بقر وفراخ كده. ثانيًا، المبالغة في ردة فعله دي سببها إنه عايش في عزلة عن كل الكائنات التانية.. حتى السايكلوبس مع بعضهم مش قريبين أوي من بعض وكل واحد عايش في كهف لوحده. فطبيعي جدًا لما يبقى شخص عايش طول حياته في وحدة وعزلة ويجي فجأة يلاقي حد فرض نفسه على مساحته الشخصية هتكون ردة فعله مبالغ فيها وعنيفة كده. جرب كده أحبس شخص في سجن انفرادي من صغره وتعالى بعد مدة طويلة حاول ألمسه بس لمسه خفيفة، هتلاقي أتنفض وأترعب منك. ده حتى أي شخص طبيعي لما بيعيش لوحده مدة كبيرة فيه احتمال إنه ياخد فترة عقبال ما يرجع يختلط بشكل طبيعي مع غيره وممكن جدًا يطور سلوك عدائي. ثالثًا، سلوك بوليفيموس طفولي وفيه عبط وبراءة كده حتى في غضبه.. هو عامل زي الطفل اللي جيه في يوم لاقى واحد تاني قاعد على سريره وبيلعب باللعب بتاعته، غالبًا ردة فعله إنه هيعيط ويصرخ وممكن يكسر حاجات وهو مش مدرك تأثير رد الفعل ده على اللي حواليه إيه (كان فيه طفلة في عيلتنا كل ما بتعيط بترمي حاجة مامتها وباباها من الشباك :D)، ده غير طبعًا إنه شرب من الخمر بتاع أوديسيوس بكل عبط من غير ما يشك فيه، ده غير تصديقه لإن اسم أوديسيوس فعلاً “ولا حد”. كمان العين الواحدة دي بتدل على محدودية البصر حرفيًا ورمزيًا.
أكيد كل واحد فينا يعرف حد شخصيته زي بوليفيموس، سريع الغضب والاشتعال بس دوافعه طفولية خالية من الخداع والشر. للأسف الشخصيات اللي زي دي سهل جدًا إنها تتصور بشكل مرعب وشرير للناس اللي ماتعرفهاش – واللي تلقائيًا بياخدوا دور الضحية – وعلشان كده الناس بتنفر منها وده بيعزز من عزلتهم أكتر وبالتالي بيزيد من ردود أفعالهم العنيفة.
طبعًا ده مش معناه إن أوديسيوس شرير وإنه المفروض مكانش عمل اللي عمله. أوديسيوس مكانش قدامه حل تاني غير الخديعة والعنف علشان ينقذ نفسه وجنوده (مع إنه هم اللي غلطانين من الأول إنهم دخلوا الكهف وأكلوا من غير استئذان، بس ما علينا).. مشكلتي مع أوديسيوس بقى هي أخر حاجة عملها..
المفروض أي شخص طبيعي مكان أوديسيوس يبوس إيده وش وضهر إنه عرف يهرب أساسًا من موقف زي ده وياخد نفسه واللي معاه ويجري.. بس إزاي! أول ما ركب السفينة هو وجنوده أوديسيوس نَدَه على بوليفيموس بعلو صوته علشان يتنطط عليه وقال له “علشان بس يبقى في معلومك.. اللي خزقلك عينك وشوهك كده ماسمهوش ولا حد.. اسمه أوديسيوس العظيم ملك إيثاكا!”
طبعًا أول ما بوليفيموس عرف اتجاه الصوت راح أخد الصخرة الضخمة اللي كان سادد بيها مدخل الكهف ورماها في المياه ناحية السفينة. الصخرة ماجتش على السفينة بس وقعت قريب منها جدًا لدرجة إنها كانت هتتقلب ناحية الشط التاني لولا إن الجنود قدروا يتحكموا فيها بسرعة ويرجعوها تاني. بوليفيموس أول ما عرف اسم أوديسيوس قعد يدعي باباه بوسايدون إنه يطين عيشته – دعوة موجهة بقى – ويعاقبه على اللي عمله فيه. وفعلاً بوسايدون استجاب لبوليفيموس وخلى رحلة عودة أوديسيوس لبيته مهببة ومليانة بالصعاب لدرجة إنها استغرقت عشر سنين كمان.
في علم النفس بيُقال إن شخصية المخادع trickster archetype دايمًا بيبقى عنده رغبة دفينة للكشف عن نفسه وعن خداعه علشان الدهاء وراء خططه يُنسب ليه والناس تعرف قد إيه هو شاطر، وإن الغرور ده جزء متأصل في طبيعته المخادعة وبتبقى هي العيب أو الـtragic flaw اللي بيكون سبب في سقوطه\فشله.. فكل ما كان الشخص المخادع أناني أو متغطرس كل ما قدرته على الخداع عمرها بقى قصير.
في فيلم The Usual Suspects (1995) واحد من الشخصيات قال جملة عبقرية:
The greatest trick the devil ever pulled was convincing the world he didn’t exist.
فيما معناه إن أعظم خدعة قام بها الشيطان هي قدرته على إقناع العالم أنه غير موجود.
المخادع لما بيتخلى عن غروره ورغبته في إثبات وجوده وإرجاع الفضل لنفسه عمره ما بيتكشف، وقدرته على الخداع بتبقى أقوى وألعن مليون مرة. وده معناه إن أوديسيوس مخادع بس مصاب بداء الغرور اللي خلاه يكشف عن هويته في الأخر – الكشف اللي كان سبب سقوطه وعقابه اللي استمر عشر سنين. وده يوضح لنا ليه الرحلة المليانة بالصعاب دي كانت مهمة في تكوين شخصية أوديسيوس لما اتكلمنا عنها قبل كده وإنها ساعدته يفهم نفسه ويتغلب على عيوبه.
أحيانًا انعزالنا عن الآخرين واستغرقنا مع نفسنا لفترات طويلة سواء بشكل فعلي (العزلة في حالة بوليفيموس) أو بشكل نفسي (الغرور في حالة أوديسيوس) بيخلينا نفقد القدرة على رؤية أنفسنا بشكل صحيح وعلى إدراك إننا غالبًا فينا نفس العيوب ونقاط الضعف اللي بنتهم بيها الآخرين.
اللحظة اللي أوديسيوس نَدَه فيها على بوليفيموس علشان يغيظه ويقول له اسمه توضح إن أوديسيوس لا يقل سذاجة عن بوليفيموس، وإن بالرغم من إن السايكلوبس المسكين هو اللي أتخزقت عينه في المغامرة دي علشان أفتكر إنه أمهر من أوديسيوس وجنوده إلا إن أوديسيوس هو اللي فعلاً أصاب بالعمى لما قرر يستسلم لغروره.
كلامك عسل. انا قرأت الاوديسة من اكثر من مترجم لكني فعلا سررت بطريقة كلامك العامية و ضحكت من قلبي. هوميروس لا شك شخص عبقري انه نسج الالياذة و الاوديسة بهذه الطريقة المحكمة شعراً و ليس نثراً. بعضهم يشكك بنسبة العملين له و البعض الاخر يقول انه ربما كتب احد العملين لكن العمل الاخر لشخص آخر المهم طريقة كلامك أضحكتني. شكرا لك
إعجابإعجاب
شكرًا. شرف ليا والله 🙂
إعجابإعجاب