كالفينو وقيود العالم الحسي

بقرأ حاليًا مجموعة قصصية ممتعة اسمها The Complete Cosmicomics للكاتب الإيطالي ايتالو كالفينو Italo Calvino.. المجموعة تضم قصص مختلفة لكن بطلها مشترك وهو وجود كوني يبلغ من العمر بلايين السنين شهد نشأة الكون والأرض وبيحكى لنا تأثير التغيرات دي عليه.

أنا لسه ماخلصتش الكتاب بس حتى الآن معظم القصص، على اختلافها وغرابة أحداثها، بتغلب عليها فكرة واحدة وهي استحالة الوصول للأشياء في صورتها الأصلية/الحقيقية. في قصة من القصص مثلاً الوجود الكوني ده بيحكى لنا إنه اخترع علامة (أول علامة في الكون) علشان يحسب بيها مدار الشمس، بس بعد مرور ملايين السنين نسي مكان وشكل العلامة وأصبحت كل العلامات اللي بيخلقها بعد كده مجرد انعكاس باهت للعلامة الأصلية اللي فقدت صورتها الحسية وأصبحت مجرد فكرة. قيسوا على ده مفهومنا عن الحب والعدل والفن والشعر.. إلخ، كلها أفكار موجودة في عقلنا بصورتها الأصلية الكاملة المبهمة لكن مجرد ما بتتحقق في العالم الحسي بتصبح صورة باهتة غير مكتملة للفكرة الكاملة في مخيلتنا.

في قصة أخرى نفس البطل بيحكى لنا عن زمن مر عليه الأرض فيه كانت بلا غلاف جوي وبلا ألوان. كل شيء عليها كان مجرد أشكال رمادية مبهمة. في الوقت ده وقع في غرام كائن وجودي آخر مثله لكنها كانت محبة لصورة الأرض الضبابية الخالية من الأشكال والألوان، المهم أول ما الغلاف الجوي اتشكل وابتدت الأرض تتلون، حبيبته قررت الاختفاء في باطن الأرض لأنها شافت أن طوفان الألوان والأشكال ده طاغٍ ومجحف لرؤيتها للأرض وبيفرض عليها صورة معينة.. حتى لما بطلنا الأزلي سألها ليه بتكره الألوان للدرجة دي على الرغم أنها هتسمح له يشوفها في المطلق (وتحديدًا يشوفها بشكل أجمل وأدق)، ردت عليه وقالت إنها كانت بتحبه أكتر لما كان قادر يتخيلها بالشكل اللي هو عايزه وهي لما كانت قادرة توحي له أنها الشكل اللي هي عايزاه. وده يخلينا نفكر أن أي حاجة جميلة، زي الألوان، بالرغم من جمالها فهي بتفرض علينا صورة معينة وبتحد من خيالنا اللي قادر يسع الكون كله لولا إثقاله وتحجيمه بالصور الحسية.

قصص كتير تانية في المجموعة بتدور في فلك نفس الفكرة.. والله يبشبش الطوبة اللي تحت دماغ الأستاذ أفلاطون اللي كلمنا قبل كده في إحدى نظرياته عن الفرق بين العالم الحقيقي (حيث توجد الأشياء بصورتها الأولية الأصلية) والعالم الحسي (الغارق في الصور المزيفة وغير المكتملة). العالم الحسي بكل صوره مهما بلغت من الجمال والكمال هيفضل يلهث وراء العالم الحقيقي الذي تدركه أرواحنا بشكل ما.


اترك رد