كاليستو وكوكبة الدب الأكبر

أسطورتنا النهاردة هتحكي قصة منشأ المجموعة النجمية المسماة بالدب الأكبر Ursa Major وعلاقتها بالحورية الجميلة كاليستو Callisto اللي فقدت كل شيء وجنت الخلود..

كاليستو كانت حورية من أتباع أرتميس Artemis ربّة الصيد والبرية عند الإغريق، وكان من الشروط اللي وجب تحققها في أتباعها الحفاظ على عذريتهم، مثلهم مثل أرتميس نفسها. طبعًا مفيش داع نقول قد إيه كاليستو كانت جميلة لدرجة لفتت انتباه كبير الآلهة زيوس Zeus ذات نفسه اللي ماضيعش وقت كالعادة واتنكر في صورة أرتميس علشان يقدر يقرب من كاليستو وتدي له الأمان.. وهوب! رجع لهيئته الأصلية واغتصبها. كاليستو المسكينة مارضيتش تحكي اللي حصل لها لأي حد لأن أرتميس لو عرفت هتغضب عليها وتنبذها (مع أنه مش ذنبها بس ما علينا)، لكن لما بطن كاليستو بدأت تكبر أرتميس عرفت وفعلاً نبذت كاليستو ولعنتها.

بعدها بكام شهر، كاليستو وضعت طفلها أركاس Arcas. ولادة أركاس لفتت انتباه الربّة هيرا Hera زوجة زيوس لأن أركاس نصف إله، والموضوع ماحتاجش منها تفكير كتير علشان تعرف أن أركاس هو ابن زيوس اللي لا يتوانى عن النوم مع أي بشرية أو حورية أو ترابيزة بلياردوا حتى. وكأن كاليستو المسكينة كان ناقصها مصايب، هيرا قررت تعاقبها بأنها تحولها لدبّ! زيوس لما شاف التهريج ده وعقاب هيرا اللامنطقي مش يرجّع البنت الغلبانة لصورتها، لأ.. كل اللي عمله هو أنه أخد طفلها أركاس منها وبعته عند ناس يربوه، وساب كاليستو مفطورة الفؤاد تهيم على وجهها في الغابة كدب ضخم.

المهم أركاس كبر وبقى شاب حليوة وفي سن صغيرة أصبح هو ملك المنطقة اللي أتربى فيها. وفي يوم خرج للغابة علشان يصطاد كعادته، وهنا هيرا تدخلت وتنكرت في صورة صياد من أصدقاء أركاس وشجعته يروح المنطقة اللي عايشة فيها كاليستو كحيوان بري. أركاس أول ما شاف كاليستو في هيئتها كدب ضخم أخدته الحمية وتشجع أنه يصطادها بالرمح بتاعه، أما كاليستو المسكينة أول ما شافت أركاس وتعرفت عليه ماقدرتش تتمالك نفسها وجريت عليه علشان تحضنه. طبعًا أركاس افتكر أن الدب بيهاجمه فأطلق رمحه سريعًا تجاه قلب الدب.

لحظة درامية تليق بمسلسل مكسيكي ولو تمت كانت هتبقى مأساوية جدًا.. لولا تدخل زيوس في أخر لحظة اللي مهانش عليه يشوف أركاس بيقتل أمه بنفسه، فعمل إيه بقى؟ حول أركاس لدب هو كمان ورفع الاتنين في السماء ليُخلدا معًا كمجموعتين نجميتين معروفين باسم الدب الأكبر Ursa Major والدب الأصغر Ursa Minor.

لأول وهلة قد تبدو أن دي نهاية سعيدة للأسطورة، كاليستو بتُخلد في السماء مع ابنها اللي اتحرمت منه من ساعة ما اتولدت وبالتالي بتُعوض عن سنين حرمانها الطويلة. ده غير أن رفعهم للسماء هو أقرب لفكرة الـ apotheosis أو التأليه، وهي رفع كائن فانٍ لمنزلة خالدة أقرب للقدسية.. للأبد هتفضل كاليستو وابنها أركاس منورين في السماء وبيدلوا الناس على الطريق الصحيح. ممكن كمان نجادل بأن رفض زيوس لإرجاع كاليستو لصورتها الأصلية مش سببه الخوف من هيرا ولا حاجة لا سمح الله ولكن لاعتباره أن التحول لهيئة دب هو نوع من التكريم. الباحثون في الأساطير بيقولوا لنا إن الدب كان من الحيوانات المقدسة قديمًا وإن الكثير من الأبطال والملوك كانوا بيحبوا يتشبهوا بالدببة نظرًا لقوتها المهيبة وشجاعتها وصبرها وقدرتها على التنبؤ بالفصول وجمعها للكثير من الأضداد ووقوفها بين صفات الحيوان وصفات الإنسان. وبالتالي تحول كاليستو لدب – اللي اعتبرته هيرا عقاب علشان بسببه كاليستو فقدت جمالها وهيئتها – ممكن يتشاف برضه كنوع من التحول في شخصية كاليستو بأنها نفضت جسدها وأصبحت جزء من البرية اللي كانت بتحاول من الأول خالص تنتمي لها بإتّباعها لأرتميس. وفي النهاية التحول ده تُوّج برفعها للسماء مع ابنها أركاس.

التفسير السابق للأسطورة يصلح للناس المتفائلة محبي النهايات السعيدة. فيه فريق آخر هيشوفوا أن نهاية الأسطورة أتعس ما تكون. كاليستو المسكينة لم تُعاقب مرة أو اتنين، إنما عوقبت مرات عديدة لذنب لم تقترفه أصلاً! في البداية تم نبذها من قبل أرتميس وفقدت رفيقاتها وحياتها اللي اعتادت عليها، وكأن ده مش كفاية جات هيرا كمان وحرمتها من جسدها. وعقاب هيرا لا يتمثل فقط في حرمان كاليستو من جمالها، دي حرمتها من هويتها وقدرتها على التعبير عن نفسها وبالتالي حرمتها من القدرة على خلق أي نوع من التواصل مع أي حد، حتى ابنها اللي من دمها. هيرا حكمت على كاليستو بالوحدة الأبدية.. بأن تحيا في جسد لا يمثلها وبهيئة لا تُعبر عنها وبصوت لا يفهمه بشر.

وأخيرًا يجي زيوس علشان يزيد الطين بلة ويمنع عنها أي أمل في النجاة أو التواصل الحقيقي ويخلد ذكراها في الوعي البشري كدب، ليس ككاليستو الحورية الجميلة. بعيدًا عن الأسطورة نفسها، مأساة كاليستو وحبسها في هيئة غير هيئتها وعدم قدرتها على التواصل هي مأساة وجودية في المقام الأول، وهي أن الإنسان هيفضل طول عمره حبيس مظهره الخارجي، وحتى لو مظهره الخارجي بيتوافق مع شخصيته فهيلاقى نفسه حبيس لرؤى وتفسيرات الناس له اللي غالبًا بتكون انعكاس لنفوسهم مش للشخص اللي بيحاولوا يفهموه. الأستاذ الفاضل نيتشه Nietzsche بيقول لنا إن الإنسان مدفوع برغبته في تفسير كل حاجة وكل شيء لدرجة أننا بنفقد قدرتنا على رؤية الحقيقة في وسط بحر من التفسيرات المتحيزة غير الموضوعية، وده بيخلي معرفة الجوهر أو مفهوم التواصل ككل أقرب للاستحالة. يعني زي كاليستو، كلنا اتحكم علينا نتشاف بصورة غير صورتنا الحقيقية. فيه قصة متداولة عن الفيلسوف الألماني هيجل Hegel أن وهو على فراش الموت قال إنه عاش طول عمره وحيد على الرغم من حياته الطويلة والناس الكتيرة في حياته لأن محدش قدر فعلاً يعرفه أو يفهمه.

الناس عادةً بتشوف الخلود، بمفهومه المعنوي، على أنه حاجة عظيمة.. لما شخص ما بيُخلّد ده معناه أن ذكراه هتفضل عايشة معانا، ولكن ماذا لو الذكرى لا تعكس حقيقة الشخص؟ ساعتها التخليد هيبقى تكريم ولا عقاب؟ الموضوع كأننا بنجبر شخص يعيش في صورة غير صورته طوال حياته وحتى بعد مماته، كأننا بنحرمه من نعمة التفهم في الحياة والموت، بالظبط زي ما كاليستو خُلّدت في هيئتها كدب.

حاجة كمان هتخلينا نشوف مدى قسوة عقاب كاليستو: يُقال إن هيرا ماعجبهاش موضوع أن كاليستو وأركاس سيخلدا في السماء للأبد فأرسلت بنجم حارس السماء – المعروف أيضًا باسم السماك الرامح – Arcturus علشان يضمن أن مجموعتي الدب الأكبر والدب الأصغر مش هيقربوا من بعض ولا هيوصلوا أبدًا لمستوى الماء للشرب منه وهيفضلوا عطشانين للأبد (وده كان تفسير القدماء لعدم نزول المجموعتين النجميتين تحت مستوى البحر وظهورهم الدائم في السماء واللي سببه الحقيقي ارتباطهم بالنجم القطبي الشمالي شبه الثابت)، واللطيف أن اسم Arcturus باليونانية القديمة معناه “حارس الدب”. هيرا فهمت طبيعة عقاب كاليستو وأمعنت في تعذيبها بأنها خلت صورتها الزائفة في السماء ثابتة مرئية طوال الوقت علشان تحرمها من نعمة نسيان الناس لها حتى لو لساعات أو أيام.

مأساة/أسطورة كاليستو هي تذكرة أننا كبشر كُتب علينا نتشاف ونتفهم غلط في حياتنا وفي مماتنا، أننا مهما اقتربنا من الآخرين أو ابتعدنا عنهم سنظل حبيسي رؤى الآخرين ووحدة أنفسنا، وده مش بسبب خطأ من جانبنا أو من جانب الآخرين.. هي مجرد الحياة.

الشاعرة الكندية آن كارسون Anne Carson في كتابها Plainwater (1995) بتقول:

“My brother once showed me a piece of quartz that contained, he said, some trapped water older than all the seas in our world. He held it up to my ear. ‘Listen,’ he said, ‘life and no escape.”

“هي الحياة.. ولا مفر.”


رأي واحد حول “كاليستو وكوكبة الدب الأكبر

اترك رد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s