موضوع النهاردة هيكون عن فيلم “ثلاثة آلاف عام من الحنين” Three Thousand Years of Longing وارتباطه بالحكي وعالم الأساطير. اللي هكتبه مش تقييم للفيلم ولكن محاولة لتفسيره بشكل شخصي. طبعًا مش محتاجة أقول اللي لسه ماشفش الفيلم بلاش يقرأ ويتفرج الأول، واللي شاف الفيلم أو مش حابب يشوفه يتفضل معانا في الرحلة اللطيفة دي..

سريعًا، قصة الفيلم بتدور حول باحثة بريطانية ومتخصصة في السرد والأساطير اسمها أليثيا. أليثيا، صاحبة الخيال الواسع، بتسافر تركيا لحضور مؤتمر وهناك بتشتري زجاجة أثرية كتذكار ولما بتفتحها بيطلع منها جني بيقول لها إنه حُبس في الزجاجة من ثلاث آلاف سنة على يد النبي سليمان وإنها لازم تتمنى ثلاث أمنيات وهو يحققهم علشان يحصل على حريته. طبعًا بعد فترة من الذعر والإنكار أليثيا بتلاقي نفسها مش عارفة تتمنى أي حاجة، ده غير أن دراستها للأساطير علمتها أن قصص الجني والأمنيات والحاجات دي عمرها مابتنتهي نهاية سعيدة. المهم الجني يجيبها كده يجيلها كده وهي برضه مابتتمناش حاجة وانتهى بيهم الأمر وهما قاعدين يحكوا لبعض عن ماضيهم. أليثيا بتحكي للجني عن زوجها السابق وهو بيحكي لها عن النساء اللي فتحوا الزجاجة خلال فترة حبسه وفشلهم في تحريره. أليثيا في النهاية بتتعاطف مع الجني بشكل كبير وبتتمنى أول أمنية.. وهي أنه يحبها. الجني فعلاً بيحبها وهي بتحبه وبيفتّح دماغها لعالمه السحري اللي كانت دائمًا بتحلم تكون جزء منه، وبيرجعوا لندن مع بعض… وهنقف هنا ونكمل بقية القصة بعدين.

جزء كبير من النقاش اللي بيدور بين أليثيا والجني بيتناول فكرة التمني وبالتالي رغبات الإنسان، وبعد ما بنسمع قصتها وقصته بنستخلص أن رغبات الإنسان معظم الوقت بتتلخص في رغبتين: الحرية والحب.. رغبة الإنسان أنه يكون حر طليق بلا قيود، ورغبته في أنه يحب ويتحب. والسؤال هنا، هل الرغبتين دول متناقضتين؟ هل وجود الحب بيقيد الحرية ووجود الحرية بيطمس الحب؟
الحقيقة أن المواجهة بين أليثيا والجني بتمثل معضلة تعارض الرغبتين دول: أليثيا ضحت بالحب (زواجها) بسبب حريتها (انغماسها في قصصها ودراستها)، والجني ضحى بحريته (حبسه في الزجاجة) بسبب حبه لملكة سبأ. لكن الفيلم بيجي في النهاية وبيهدم التناقض ده بين الرغبتين وبيطلعنا من مزنق إما/أو من خلال أمنيات أليثيا.. أمنية أليثيا الأولى كانت أن الجني يحبها ويفضل معاها وفعلاً بيحبها وبيرجعوا سوا للندن بس للأسف الجني بيضعف ومابيقدرش يعيش بسبب الموجات الكهرومغناطيسية اللي مالية الجو (جايبة الجني من سامسونج تقريبًا) وهنا أليثيا بتستخدم أمنيتها التانية والتالتة في تحرير الجني وإعطائه حرية العودة لمملكة الجن. الجني، لأنه لسه بيحب أليثيا، بيرجع يزورها في فترات مختلفة من حياتها.
زي ما قولنا رغبة أليثيا في الحرية أودت بيها لخسارة الحب، ولكن لما أعطت للجني حريته حصلت هي على الحب. والجني كمان، رغبته في حب ملكة سبأ أودت بيه لخسارة حريته، ولكن لما وهب أليثيا الحب حصل على الحرية. وكأن الاتنين برغابتهم المختلفة وحنينهم المتناقض وصلوا للحرية والحب في وجود بعض.. لما كل واحد منهم وهب ما يتمناه للآخر.
فيه قصة لنيل جايمان Neil Gaiman اسمها “أكتوبر” “October” (لأنها واحدة من ضمن مجموعة “تقويم من الحكايات”) حضرت في ذهني بشكل قوي وأنا بتفرج على الفيلم. القصة برضه بتحكي عن سيدة بتلاقي مصباح وبيطلع لها منه جني وبيطلب منها ثلاث أمنيات. الست بتقعد تماطل الجني وتقول له مش عايزة حاجة، طيب نتغدى الأول وأقول لك، طيب بكرة، طيب تعالى نتمشى الأول.. وبيفضلوا كده فترة طويلة لحد ما الجني بيكتشف أن وجوده معاها ووجودها معاه هي أقصى وأجمل أمانيهم.


طيب، تعالوا ناخد الفيلم في حتة تانية.. صعب حد يشوف الفيلم ومايفكرش في لحظة أن ممكن كل اللي حصل لأليثيا ده وهم من وحي خيالها النشط، خصوصًا أنها بتحكي للجني أنها وهي صغيرة كانت بتتخيل وجود شخصيات غير حقيقية ده غير طبيعتها اللي بتتماهى مع أي قصة بتقرأها. والصراحة أنا أفضل التفسير ده للفيلم لأنه بيحول الجني من مجرد شخصية لرمز لعالم الحكي والخيال ككل.
الجني بيحكي لأليثيا عن تجاربه السابقة مع النساء اللي فتحوا الزجاجة.. المرة الأولى كانت فتاة اسمها جولتن وكانت من حريم سلطان ما كده. المهم جولتن كانت بتحب ابن السلطان وطبعًا أول أمنية اتمنتها هي أن ابن السلطان يحبها والتانية أنها تحمل منه، الجني بيحاول يحذر جولتن من سيطرة مشاعرها عليها وأنها لازم تفكر بشكل عقلاني شوية لكن للأسف جولتن بتموت بسبب مؤامرة في القصر قبل ما تقول أمنيتها الثالثة وبالتالي الجني مابيتحررش. المرة التانية كانت فتاة اسمها زفير تزوجت من رجل مسن، زفير كانت مهووسة بالعلم والرياضيات والاختراعات، وبالتالي أول أمنية ليها كانت أن يبقى عندها المعرفة بكل العلوم في الكون والتانية أنها توسع قدراتها الذهنية، المهم ساعتها زفير كانت منغمسة تمامًا في علومها لدرجة الهوس فلما حست بقرب الجني منها ومشاعره ناحيتها اتجننت واتهمته بمحاولة تقييد حريتها وضيعت أمنيتها الأخيرة على أنها ترجعه الزجاجة تاني. ده غير أن كان فيه مرة كمان في النص كده واحدة فتحت الزجاجة وأول ما شافت الجني راحت مرجعاه ورمت الزجاجة في البحر.

زي ما قولنا الجني قصة، عالم الخيال المصاحب لأي قصة. القصة دي عايزة تتحرر من القالب اللي فرض نفسه عليها.. القصة بتقابل اللي بيتعاملوا معاها بطريقة عاطفية وبيستخدموا مشاعرهم بس وبيفرضوها عليها لقراءتها (جولتن)، وبتقابل اللي بيتعاملوا معاها بطريقة منطقية بحتة وبيستخدموا العقل بس وبيفرضوه عليها لقراءتها (زفير)، وبتقابل اللي بيقفل الباب في وشها وبيرميها من قبل ما يسمع أو يقرأ منها سطر حتى. التعامل مع عالم الخيال من خلال المشاعر والعواطف بس خطر وقد يؤدي لانفصال القارىء عن واقعه، والتعامل معاه من خلال العقل والمنطق بس مقيد وبيقتل روح الحكي، ورفض الانغماس في الخيال من أصله، في رأيي، غير إنساني. الجني بيتعرض للثلاثة أنماط من القراء دول لحد ما بيقابل أليثيا اللي بتستخدم قلبها وعقلها علشان تفهمه.. اللي بتدرك أن القصة زيها زي أي كائن حي محتاجة تَفهّم ومساحة من الحرية علشان تقدر تتحرك وتكبر وتتغير. وده اللي بيحصل في أخر الفيلم فعلاً لما بتتمنى حرية الجني وبتسيبه يبعد عنها ويرجع براحته.

كشخص مُحب للدراسات السردية، علاقة أليثيا بالجني (القصة) في ضوء التفسير ده داخل مزاجي جدًا لأنها بتنفي فكرة الوظائف المحددة للقصص وفكرة الدروس المستفادة والكلام ده. القصة مش شرط يكون ليها دور تاريخي ومجتمعي عظيم ولا لازم يكون فيها درس مستفاد ولا لازم تكون صعبنيات وشحتفة.. القصة كيان مرن لا يمكن تحديد شخصيتها، دورها بيتحدد بالأشخاص اللي بتقابلهم والأماكن والأزمنة اللي بتسافرها.. كيان بيتغير ويتحول في كل مرة بيلمس فيها روح إنسان، في كل مرة بتُكتب في ورقة أو تُقرأ في كتاب أو تُحكي في مجلس أو تُغنى في أغنية أو تمر في حلم نائم.
اللي بيأكد لي كمان أن الجني المقصود بيه عالم الخيال والسرد أنه لما بيخرج من زجاجته وبيرجع لندن مع أليثيا بيضعف بسبب التكونولوجيا الحديثة في إشارة واضحة طبعًا للصراع بين الخيال والعلم وتأثير التكنولوجيا على خيالنا. خيالنا بيضعف ويموت لأننا استبدلناه بأشياء أخرى مابناخدش منها غير القلق وضيق الأفق، في حين أن العلم ذات نفسه ممارسة من ممارسات الخيال والتمني.
موضوع أن الجني هو القصة أو عالم الخيال ده مش جديد، فيلم Lady in The Water – مع أن تنفيذه كان سيئ – عرض فكرة شبيهة لما صورعامل بيلاقي مخلوقة عايشة في حمام سباحة المبنى اللي بيشتغل فيه وبيتسحل معاها بقى في عالم أسطوري من الكائنات الشريرة وبيصارع علشان يقدر يوازن بين عالمه الحقيقي وعالم القصة (المخلوقة كان اسمها “قصة” فعلاً في الفيلم).

فيلم “ثلاثة آلاف عام من الحنين” جميل وهيخليك تفكر في دور الخيال في حياتك ومعضلة التمني وهل فعلاً عندك أمنيات لو اتحققت هتكون سعيد السعادة اللي متخيلها ولا السعادة اللي في دماغك دي هي كمان ضرب من ضروب الخيال؟
دمتم، كالعادة ، في خيال.