بيوولف ومواجهة الوحوش

قصتنا النهاردة هي واحدة من أقدم الملاحم الشعرية المكتوبة باللغة الإنجليزية حتى وإن اختلف النقاد على إطلاق اسم “ملحمة” عليها نظرًا لقصرها مقارنةً بالملاحم الشهيرة الأخرى..

النهاردة هنتكلم عن البطل بيوولف Beowulf وحياته اللي قضاها في مواجهة الوحوش.

مع أن القصيدة مكتوبة بالإنجليزية القديمة إلا أن أحداثها بتدور في المنطقة الاسكندنافية وتحديدًا الدنمارك حيث يعيش الملك هروثجار Hrothgar سعيد ومتهني ومنتصر على أعدائه. وفي يوم هروثجار بيقرر يبني قاعة كبيرة للاحتفالات mead hall – وده مكان بيجتمع فيه الملك مع جنوده وأهل المملكة لشرب الخمر والغناء والرقص والاحتفال بانتصاراتهم – واسماها هيروت Heorot.

هيروت شهدت العديد من الاحتفالات والأفراح وليالي الملاح حتى جاء اليوم المشؤوم..

في ليلة وبعد انتهاء الاحتفال الصاخب، وبعد ما استغرق الجنود وأهل المملكة في نوم عميق هجم عليهم وحش غاضب قعد يقتل وياكل في جنود هروثجار. القصيدة بتعرفنا بالوحش ده وبتقول لنا إن اسمه جريندل Grendel وإنه أشبه للغول في هيئته وإن أصوات الغناء والصخب الصاعدة من هيروت كانت بتسبب له غضب شديد، ومانعرفش بقى سبب الغضب ده كان أنه بيكره الصوت العالي ولا بيكره الوحدة ولا بيكره الاحتفالات في المجمل ولا لم يجد من يحنو عليه ولا إيه مشكلته بالظبط. المهم أن هجمات جريندل اتكررت وفشلت محاولات الجنود في صده لحد ما هروثجار أمر بغلق هيروت وبمنع الاحتفالات تمامًا.

المصيبة اللي واقع فيها هروثجار دي وصلت أصداؤها للممالك المجاروة وتحديدًا للمملكة اللي بيعيش فيها بطلنا المغوار بيوولف. بيوولف بشجاعته وغروره المعتادين بيقرر يسافر لمملكة هروثجار علشان يقتل الوحش جريندل. هروثجار بيرحب ببيوولف وبيحذره من خطورة المهمة اللي مقبل عليها وبيقول له إن جريندل قتل أفضل محاربيه وأبطال غيره كتير تطوعوا للقضاء على الوحش.. طبعًا بيوولف بيرد عليه “أنت فاكرني مين يا عم، ده أنا بيوولف! ولا عاش ولا كان الوحش اللي يقف قدامي. روح يالا افتح لنا هيروت نشرب كاسين ونهيص”..

بيوولف قضى الليلة فعلاً في هيروت مع جنوده يغنوا ويرقصوا ولا كأنهم مستنين خالتهم اللي جاية من العمرة مش وحش غاضب هيلتهمهم، وفي أخر الليلة بيوولف قلع درعه ورمى سيفه وقرر يواجه جريندل راجل لراجل (أو راجل لوحش بقى) علشان مايتقالش عليه أنه هزم الوحش الأعزل بأسلحته. جريندل ماكدبش خبر وهجم على هيروت بعد ما سمع أصوات الغناء والرقص تتصاعد منها ولكن المرة دي لقى بيوولف في انتظاره.

وبالطبع بيوولف بيتغلب على جريندل وبينتزع دراع الوحش اللي بيجري على ماماته وهو بيعيط.

ايوه، زي ما قرأتم كده. القصيدة بتقول لنا إن أم جريندل هي كمان وحش كانت عايشة في منطقة قريبة من مملكة هروثجار وإنها أول ما شافت اللي حصل لابنها جريندل اللي بيموت بين إيديها متأثرًا بجراحه بعد معركته مع بيوولف بتغضب غضب شديد وبتتعهد بالثأر من البشر.

نرجع بقى لمملكة هروثجار اللي قضت اليوم في سعادة احتفالاً بموت جريندل واحتفاءا ببطلهم الجديد بيوولف. هروثجار أمر بإعادة فتح هيروت والناس رجعت تغني وترقص غير مدركين أن في نفس ذات الليلة أم جريندل لن ترحم أحد. بعد انتهاء الاحتفالات، أم جريندل بتهجم على القاعة والسيناريو البشع بيتكرر تاني.

بيوولف كان هيتجنن وسأل هروثجار “أنتم عندكم كام وحش بالظبط!”.. هروثجار قال له إن الوحش اللي هجم عليهم امبارح كان غالبًا أم جريندل اللي عايشة في مستنقع قريب. بيوولف لعن اليوم اللي جيه فيه بس قرر يروح للمستنقع بنفسه يقتل أم جريندل علشان يشوف أخر الهم ده إيه.

بيوولف بينزل المستنقع ولا الكهف ولا الهباب اللي عايشة فيه أم جريندل وبيواجهها فعلاً وبيجد في قتلها صعوبة بالغة وبيكتشف أن الأسلحة اللي معاه غير مجدية بالمرة. بيوولف كان هيروح فطيس في مواجهة الأم الثكلى الغاضبة لولا أنه في اللحظة الأخيرة اكتشف وجود سيف مسحور عملاق مغروز في جدار الكهف، بيوولف استجمع ما تبقى من قواه وانتزع السيف وقتل بيه أم جريندل.

كلاكيت تاني مرة، أهل المملكة قعدوا يحتفلوا ببيوولف ويغنوا له واسم الله عليه اسم الله عليه. وقبل عودته لمملكته، هروثجار أعطى بيوولف الكثير من الكنوز.. ذهب وياقوت ومرجان ولكن أهمهم كانت نصيحة بيوولف مش هينساها أبدًا وهي أنه يحذر من الغرور ووهم المجد.

وهنا القصيدة بتقف وبتنتقل بينا خمسين سنة في المستقبل بعد عودة بيوولف لمملكته وبتقول لنا إن بيوولف بقى بطل الأبطال لدرجة أنه أصبح من المقربين للملك وورث المملكة بعد موته. بيوولف كان ملك عادل وحكيم بس طبعًا حبه للمعارك ورغبته في المجد لم تنتهي وأدت بيه لتحقيق شهرة واسعة وكنز هائل. بس بما أن مفيش قصة بطل بتنتهي بسعادة وهناء كده، بيوولف بيصحى في يوم على صوت صراخ الناس في مملكته وبيشوف تنين عملاق بيحلق فوق المملكة ونازل حرق وقتل في الناس. بيوولف بيجهز سيف ودرعه ووقتها بيكون عرف من جنوده أن التنين ده خرج من كهفه علشان فيه خادم سرق كوب ذهبي من الكنز اللي التنين كان نايم عليه بيحرسه (أكيد ده بيفكرنا بالمشهد الشهير من فيلم The Hobbit وهنعرف سبب التشابه دلوقتي).. المهم بيوولف بيقرر ياخد جنوده ويروح يواجه التنين الغاضب في كهفه. الجنود أول مابيشوفوا التنين العملاق بيخافوا وبياخدوا ديلهم في سنانهم وبيسيبوا بيوولف وحيدًا في مواجهة التنين، ما عدا جندي صغير غلبان اسمه ويجلاف Wiglaf قرر يصارع مع بيوولف للنهاية.

بيوولف بيصارع التنين ولكن مع شراسة التنين وكبر سن بيوولف المعركة بتنتهي بموت الاتنين: بعد ما بيقتل التنين، بيوولف بيكتشف أن جروحه غائرة ومميتة، وبيلفظ أنفاسه الأخيرة بين إيدين ويجلاف بعد ما يوصيه بتوزيع كل كنوزه وأملاكه على مملكته.

وبكده تنتهي أسطورة البطل بيوولف.

ملحمة بيوولف كقصة لقت شهرة واسعة بعد نشر ترجمة الكاتب الإنجليزي جون رونالد تولكين J. R. R. Tolkien ودراسته المتمعنة لها تقريبًا طوال حياته، وعلشان كده هنلاقي تأثيرها واضح على رواياته “مملكة الخواتم” The Lord of the Rings و”الهوبيت” The Hobbit ومعظم مقالاته الأكاديمية. الملحمة ليها ترجمة أخرى شهيرة صاحبها الشاعر الايرلندي شيمس هايني Seamus Heaney، وتتميز ترجمته ببساطة وجمال أسلوبها الأدبي مع اختلافها الطفيف عن النص الأصلي.

المثير للاهتمام أن بعد اكتشاف قصيدة بيوولف، الكثير من الدارسين مادوهاش أهمية واعتبروها قصيدة عبيطة بتحكي عن بطل بيقتل وحش والتاني والتالت بيقتله، بس كده، بدون أي اهتمام بالجانب الإنساني أو التاريخي للشخصية الرئيسية. تولكين له محاضرة مفيدة وممتعة جدًا اسمها “بيوولف: الوحوش والنقاد” “Beowulf: The Monsters and the Critics” بيرد فيها على اتهامات النقاد للملحمة وبيقول لنا إن الوحوش في القصيدة مش مجرد عوامل للتشويق، الوحوش في القصيدة هي قلب الملحمة وبتحمل على عاتقها رمزية القصة.

كلام تولكين سليم لأننا لو بصينا على فكرة الوحوش في التاريخ الإنساني سواء في الأساطير أو في القصص الدينية أو الشعبية، هنلاقي أن الوحش بيكتسب الهالة المرعبة اللي بتحيط بيه نظرًا لما يمثله من مخاوف إنسانية.. مثلاً وحوش زي جودزيلا وعمالقة الأساطير الإغريقية اللي بتسبب البراكين والزلازل بتمثل خوف الإنسان من الطبيعة، ووحوش زي الزومبي ومصاصي الدماء بيمثلوا خوف الإنسان الوجودي من الفناء والأبدية. تولكين بيقول لنا إن كون الثلاثة أعداء اللي بيواجههم بيوولف مش بشر بيخرج القصة من سياقها التاريخي والثقافي الضيق وبيخليها تجربة إنسانية بحتة. الثلاثة وحوش اللي في قصة النهاردة كل واحد فيهم مدفوع برغبات مختلفة وبيمثل مرحلة مختلفة في حياة بيوولف، أو بالأحرى في حياة أي إنسان.

جريندل هو أول وحش بيوولف بيقابله، ومهم نقول إن بيوولف هو اللي سافر له من مملكة تانية وراح له برجليه علشان يثبت نفسه وسمعته كبطل مغوار، يعني مابيمثلش خطر مباشر عليه أو على أهله. طيب ليه جريندل وحش؟ ليه بيهجم على الناس ويموتهم؟ زي ما قولنا في القصة، جريندل ماظهرش غير بعد بناء قاعة الاحتفالات هيروت وواضح أن فكرة الاحتفال نفسها كانت هي السبب في سخطه على البشر.. هل بسبب صوتهم العالي؟ بسبب غرورهم؟ القصيدة مابتوضحش، اللي يهمنا أن جريندل كان بيعادي فكرة الاحتفال وقضى عليها في مملكة هروثجار. جريندل على الرغم من وحشيته، بيوولف قدر يتغلب عليه بسهولة وبدون أسلحة وبعد القضاء عليه بيفتكر أنه امتلك الدنيا وما فيها… حتى ظهور الوحش الثاني، أم جريندل.

على الرغم أن الفرق بين معركة بيوولف مع جريندل ومعركته مع أم جريندل يوم واحد فقط إلا أن فيه فرق ملحوظ في شخصية وأداء بيوولف بين الاتنين. بيوولف راح يحارب أم جريندل وهو قلقان ولابس درعه ومعاه سيفه، وهنا ضروري نسأل راحت فين شجاعته الغاشمة؟ والمعركة نفسها مع أم جريندل كانت طويلة ومرهقة وبيوولف كان على وشك يلقى حتفه فيها. هل ضعف أداء بيوولف في المعركة دي بسبب إرهاقه من معركته مع جريندل ولا إدراكه أن دوافع أم جريندل للانتقام لابنها أشرس وأعمق بمراحل من دوافع جريندل للقضاء على مظاهر الفرح؟ في رأيي المتواضع أن معاناة بيوولف مع أم جريندل سببها الأول هو إدراكه لاستحقاق العقاب وتفهمه لمشاعرها وغضبها وأنه ماشفهاش مجرد وحش غشيم زي ما كان شايف جريندل. في النهاية زي ما احنا عارفين بيوولف بيقتل أم جريندل وبيرجع مملكته وبتمر سنين طويلة وبيضطر يواجه وحشه الثالث والأخير: التنين.

التنين ده بقى حكايته حكاية.

التنين ككائن أسطوري يعتبر من أقدم الوحوش المرسخة في الوجدان الإنساني. تقريبًا في أساطير كل الحضارات هنلاقي صورة للتنين بأشكال مختلفة، وفي صوره الأولى التنين كان كائن أشبه بالتعبان أو السحلية بلا أجنحة.. المهم أن الرابط المشترك في معظم التصورات دي أن التنين كائن مرعب بيمثل قوى الشر. وهنلاقي كمان أن في رؤيا يوحنا وغيرها فيه تصورات دينية عن التنين كونه الشيطان أو أحدى قوى الظلام اللي هتتسبب في نهاية العالم. فالتنين هو “مرحلة الوحش” فعلاً سواء في قصة بيوولف أو في الخيال الإنساني. ومن هنا ممكن نقول أن تنين بيوولف له تفسيرين ملهومش تالت (أو ليهم، أنا بفتي عادي):

التفسير الأول أن التنين بيرمز لبيوولف نفسه أو مواجهته لذاته اللي جاءت متأخرة جدًا وبالتالي أدت لهلاكه. زي ما قولنا من شوية، كل وحش من اللي واجههم بيوولف بيمثل مرحلة مختلفة في حياته: جريندل بيمثل مرحلة الشباب والعنفوان الغاشم والرغبة في الحياة، أم جريندل بتمثل ثقل الذنب ونتائج الاندفاع، وأخيرًا التنين بيمثل المكاشفة الكاملة مع الذات والاعتراف بالذنب. ناخد بالنا أن التنين، على عكس جريندل وأمه، كان قابع في مملكة بيوولف (نفسه) منذ قديم الزمان، وبيوولف ماضطرش لا يروح ولا يجي علشان يواجهه، أنما طلع له من تحت الأرض.. أرضه. حاجة كمان، التنين كان قابع في كهفه بيحرس كنز عظيم، وده بالظبط حال بيوولف منذ عودته من مملكة هروثجار.. محارب عظيم قاعد على كنز\إرث مهيب من الذهب والمجد والبطولة، ولكن ما لم يدركه بيوولف أن الكنز ده ملعون وهيتسبب في هلاكه. وهنا ممكن نستعين بأسطورة نوردية شهيرة عن القزم فافنير Fafnir اللي الآلهة أهدت والده كنز بيلعن كل من يملكه وكان السبب في أن فافنير قتل والده واتحول لتنين بيحرس الكنز وفي النهاية قُتل على يد البطل سيجورد Sigurd. هل رغبة بيوولف في البطولة وسعيه للمجد هي كنزه الملعون؟ هل أصبحت نصيحة هروثجار نبوءته؟

Red dragon guarding the treasure

فيه معالجة سينمائية اتعملت سنة 2007 لملحمة بيوولف بتحمل نفس الاسم، بغض النظر عن سوء التنفيذ إلا أن الفيلم أعاد تصور القصة وفسرها بشكل يؤكد على فكرة الذنب وارتباطها بالمجد والبطولة. <تحذير حرق> في الفيلم بنكتشف أن التنين هو ابن بيوولف من أم جريندل اللي وعدته بالثروات والأمجاد والشهرة لو نام معاها ووهبها ابن.. بيوولف بيستسلم لسحرها ووعودها ولكن ذنبه الثقيل بيطارده سنين طويلة وبيتحول لصورة التنين اللي بيكون سبب في هلاكه على الرغم أنه جزء منه.

طيب نروح بقى للتفسير التاني للتنين. ببساطة شديدة التنين هو الموت.

التنين زي ما قولنا هو أشرس الوحوش في الملحمة دي تحديدًا وفي الخيال الجمعي الإنساني في المطلق، وإيه أشرس وحش ممكن يواجهه الإنسان أو يخاف منه غير الموت؟ زي ما قولنا من شوية، ظهور التنين في رؤيا يوحنا بيمثل نهاية الحياة كما نعهدها. وتولكين بيقول لنا إن اللي بيخلي قصة بيوولف ملحمة إنسانية عن جدارة هي أنها بتشوف الحياة في مجملها كمأساة حتمية بنضطر نواجه فيها وحش مختلف مع كل خطوة، ولكن في النهاية بينتظرنا الوحش الأعظم اللي مفيش فرار ولا نجاة منه: الموت. التفسير ده كئيب آه ومقبض بس بيأكد لنا أن الحياة نفسها قوة مدمرة حتى لو كل هدفنا أننا نفرح وننبسط ونرقص في هيروت طول الليل، وماينفعش نبطل نعيش حتى لو ده معناه هنقتل مليون جريندل. وهنا مانقدرش نتهم بيوولف بالضعف أو الهزيمة أمام التنين – لأن هيجي اليوم اللي كلنا هنضعف قدامه – لأن بطولته الحقيقية تتمثل في قدرته على مواجهة التنين بشجاعة حتى وهو على علم بحتمية هزيمته.

ملحمة بيوولف هي ملحمة عن الحياة والموت.. زي بيوولف، الوحوش في أول حياتنا بتكون واضحة الملامح وسهلة الهزيمة (جريندل) وكل ما بنتقدم في العمر، وحوشنا بتتحور وبتاخد أشكال أقل وحشية وأكثر تعقيدًا وقتلها بيبقى أصعب لأننا بنحمل ذنبها (أم جريندل)، وفي النهاية بنواجه الوحش الحتمي المتمثل في الفناء بمعناه الحرفي أو الرمزي (التنين).

بيوولف بيعلمنا أن الوحوش في حياتنا لا تزداد شراسة، وإنما نحن من نزداد ضعفًا.. حتى تأتي اللحظة التي لا نتمكن فيها من مواجهة أنفسنا.

دمتم شجعانًا في مواجهة وحوشكم.


5 آراء حول “بيوولف ومواجهة الوحوش

اترك رد