صندوق لابانشي

قصتنا النهاردة من التراث الشعبي الألماني وخاصةً من قصص الأخوين جريم The Brothers Grimm وهي عن طفل أتولد نصفه قنفد (قنفذ بالفصحى) ونصفه إنسان.. هنحكي حدوتة “قنفدي هانس”Hans mein Igel..

القصة بتبدأ بمزارع غني عنده من الأموال أكثرها ومن المحاصيل أوفرها، الحاجة الوحيدة اللي كانت ناقصاه ومنغصة عليه عيشته هو أن معندهوش أطفال. وفي يوم وهو في قمة يأسه قعد يدعي ويقول “يا رب أرزقني بحتة عيل.. حتى لو العيل ده قنفد!”

وبالظبط تسعة شهور من ساعة ما الدعوة دي طلعت من بُقه ومراته خلفت طفل نصفه السفلي إنسان ونصفه العلوي قنفد. طبعًا الست اتسرعت والمزارع مابقاش عارف يفرح ولا يزعل ولا يعمل إيه في المصيبة دي، لحد ما قرر أنهم هيخلوا الطفل العجيب ده بس مش هيوروه لحد. الأم رفضت ترضع الطفل علشان الشوك اللي على ضهره والأب رفض يخليه ينام جنبهم، فراح بنى له عِشة صغيرة ورا الفرن حط له فيها أكل وسابه فيها.

عدت الأيام وهانس كبر شوية والأب والأم لسه بيعاملوه كحيوان بيربوه في البيت. هانس لما أدرك أنهم مكسوفين منه وأن عمرهم ما هيتقبلوه طلب من أبوه المزارع أنه ياخد المزمار بتاعه وشوية من الماشية ويروح يعيش في الغابة لوحده بعيد عنهم وعن أعين الناس كلها. طبعًا المزارع ما صدق وسابه يمشي فعلاً وأداله كمان ديك يركبه لما يتعب من المشي (آه والله ديك مش حصان ولا حمار حتى!).

هانس ركب على ضهر الديك وأخد شوية الماشية معاه ودرجن درجن راح الغابة وعاش فيها سنين طويلة لوحده مابيعملش حاجة غير أنه بيرعى الماشية ويعزف على المزمار ويبكي أحزانه. لحد ما في يوم من الأيام ملك من ملوك الممالك المجاورة ضل طريقه في الغابة ومكانش عارف يروح فين ويجي منين.. الملك سمع صوت المزمار ومشي وراه لحد ما شاف أعجب منظر ممكن يشوفه حد! شاف قنفد على شكل إنسان راكب ديك وقاعد يعزف موسيقى. الملك قال في نفسه “باينلي اتجننت ولا إيه”.. المهم الملك قرب من هانس وسأله إذا كان يعرف الطريق لمملكته إزاي. هانس تسلق أعلى شجرة وشاف مملكة الملك من بعيد ودله على الطريق فعلاً.. بس بشرط. هانس طلب من الملك أنه يوعده بإعطائه أول شيء\شخص هيقابله بمجرد ما يوصل مملكته، وهانس هيراقبه علشان يعرف إيه الحاجة أو الشخص ده. الملك وافق طبعًا بس في قرارة نفسه قال “ده قنفد عبيط وجاهل هبقى أضحك عليه بأي حاجة بعدين، المهم دلوقتي أرجع للمملكة”.. هانس وصّل الملك لمملكته فعلاً وشاف أن أول شخص استقبل الملك وجري عليه كانت بنته الأميرة الجميلة.

هانس رجع تاني لبيته في الغابة وكمل حياته عادي خالص. مفيش بعدها بكام أسبوع قابله ملك تاني ضل طريقه ومش عارف يرجع مملكته (تقريبًا الملوك دول كانوا عايشين في المعادي). هانس عرض يساعده وطلب منه نفس الطلب اللي طلبه من الملك الأول ووافق برضه. وسبحان الله برضه بنت الملك كانت هي أول شخص يستقبله بمجرد وصوله للملكة.

هانس ودّع الملك ورجع لبيته في الغابة ومافكرش خالص إنه يطالب بحقه من الملكين. هانس قرر يرجه لأهله تاني خاصةً أن الماشية اللي معاه كترت وسمنت وأعتقد أن أبوه هيبقى فخور بيه وباللي عمله. وزي ما احنا كلنا متوقعين، المزارع وزوجته بيقابلوا هانس ببرود وعلى وشهم نظرة “يا دي النيلة، أنت إيه اللي رجّعك مش كنا خلصنا منك”.. هانس دبح كل الماشية بتاعته وساب لحمها لأهل القرية، وودّع أبوه وأمه للمرة التانية وقال لهم “ماتقلقوش، المرة دي مش هتشوفوا وشي تاني” ورجع لبيته في الغابة.

هانس المسكين قلبه كان مكسور لدرجة أنه فكر في طلب حقه من الملك الأول. وفعلاً ركب الديك بتاعه ودرجن درجن راح المملكة. الملك الخبيث بقى كان منبّه على الحراس أول ما يشوفوا إنسان على شكل قنفد يضربوه بالسهام على طول، وده اللي حصل فعلاً بس هانس قدر يتفاداهم وهوب نط بالديك على شباك الملك وزعق في الملك “أنت هتديني بنتك يا راجل أنت ولا أموتكم كلكم دلوقتي!” الملك الجبان اترعب وساب له الأميرة ياخدها وراه على الديك. هانس أول ما رجع بيته وأختلى بالأميرة طلب منها تخلع ملابسها وقعد يجرح جسمها بالشوك اللي على ضهره، وبعدين طلب منها ترجع لأبوها الملك وماتجيش هنا تاني.

هانس أخد الديك ودرجن درجن على المملكة التانية وهو مستعد لخناقة جديدة. ولكن ياللغرابة، الملك رحب بيه ودخّله القصر وقال له “بنتي الأميرة ملكك وأنت هتبقى زوجها ومن حقك تعيش معانا في القصر في وسطنا”.. هانس استعجب من المعاملة الحلوة دي خصوصًا أن الأميرة كمان كانت لطيفة معاه ومخافتش منه ومن شكله. المهم يوم فرحهم، هانس طلب من الملك طلب عجيب جدًا، قال له “أول ما أروح في النوم، خلي الحراس بتوعك يدخلوا غرفتي وياخدوا جلد القنفد اللي هيلاقوه واقع على الأرض جنب السرير، ويحرقوه لحد ما يتفحم خالص”.. الملك مكانش فاهم حاجة بس وافق. وفعلاً.. لما جيه الليل، اتسحب حراس الملك لغرفة هانس وأخدوا جلد القنفد وخرجوا بيه وحرقوه لحد ما اتفحم.

الصبح بقى القصر كله صحي على صراخ الأميرة اللي قامت من النوم لقت جنبها جسد هانس محروق! الملك شاف المنظر فاستدعى أمهر الأطباء في المملكة واكتشفوا أن هانس لسه عايش فقعدوا يعالجوا فيه أسابيع بلا كلل أو ملل..

وكانت المفاجأة لما هانس شُفي تمامًا.. هانس أصبح رجل مكتمل وسيم من غير وجه القنفد ومن غير شوك على ضهره.

الأميرة مابقتش مصدقة نفسها والمملكة كلها احتفلت به، وعاش هانس في وسطهم في سعادة وحب لسنين طويلة لحد ما في يوم قرر يرجع لأهله في القرية (فقري!). هانس أول ما رجع القرية أبوه ما عرفهوش طبعًا ولما هانس قدم نفسه على أنه ابنه القنفد، الراجل برضه ماصدقهوش وقال له أنا معنديش أولاد. هانس حكى له القصة كلها من أولها وإزاي أنه دلوقتي بقى عايش في القصر كابن للملك، ساعتها بس الأب – المعفن – عمل شويتين “ابني حبيبي!” وهانس – الأصيل ابن الأصول – أخده هو وأمه يعيشوا معاه في القصر.

توتة توتة وخلصت الحدوتة وعاش الجميع في سعادة.

أعتقد أن التغير غير المتوقع في أحداث القصة (بجانب الديك اللي عامل نفسه حصان ده) هو اكتشافنا أن هانس يقدر يخلع جلد القنفد اللي أتولد فيه وعاش فيه حياته كلها. والأسئلة الطبيعية اللي هتتبادر لذهننا: إزاي هانس اتحول من قنفد لإنسان؟ طيب ليه ماخلعش جلده وهو عايش مع أبوه وأمه علشان ينال رضاهم؟ ليه ماخلعش جلده بعد ما ساب البيت وعاش لوحده؟ امتى وإزاي اكتشف أصلاً أنه يقدر يخلع جلد القنفد ويتحول لإنسان طبيعي؟ (وسؤال جانبي بس محيرني أوي: هل هانس كان صغير في حجم قنفد فعلاً لدرجة أنه كان بيركب على الديك عادي ولا كان قنفد في حجم بني آدم وساعتها هيبقى جاب الديك العملاق ده منين؟)

في علم النفس، وتحديدًا وفقًا لنظرية كارل يونج Carl Jung عن أنماط النفس البشرية، نموذج الحيوان بيرمز للمشاعر الإنسانية الأولية بمعناها الشخصي والجمعي.. من منظور شخصي، نموذج الحيوان بيرمز لمرحلة الطفولة في حياة الإنسان، لأن الطفل بيركز على احتياجاته الغريزية بغض النظر عن احتياجات اللي حواليه، وبطبيعة الحال الطفل في المرحلة دي بيحتاج ياخد أكتر ما بيدي. كما أن نموذج الحيوان بيرمز للوعي الجمعي الأولي أيام ما كان الإنسان بيعتمد بشكل أساسي على غرائزه للتعامل مع الطبيعة والعالم من حواليه. وبالتالي ولادة هانس كقنفد (حيوان) وبقاؤه على هذه الحالة لحد ما كبر بتدل أنه ماتخطاش مرحلة الطفولة وماوصلش مرحلة النضج وعلشان كده تصرفاته في الفترة دي كانت عاطفية وعشوائية وغاضبة أحيانًا زي تصرفات الأطفال بالظبط. وطبيعي جدًا أن هانس يفضل محبوس في مرحلة الطفولة وعدم النضج دي بسبب نبذ أهله له وتخليهم عن دورهم في توفير المشاعر اللي كان محتاجها علشان ينضج.

من جانب آخر، في الأساطير والقصص الشعبية فكرة خلع الجلد بترمز لتحول جذري مش بس في الشكل ولكن في الشخصية، كأن الشخص اللي خلع جلده ده تخلص من هوية قديمة وتبنى هوية وحياة جديدة.. وده بالظبط اللي حصل لهانس لما لقى نفسه، ولأول مرة في حياته، عايش وسط ناس بيحبهم وبيحبوه ومتقبلينه زي ما هو. ده مش معناه أنه غير شكله القنفدي علشانهم، ولكن خلعه للجلد بيمثل خلعه لكل مشاكله ومخاوفه وغضبه اللي كان عايش تحت رحمتهم طول عمره. وده يفسر ليه هانس ماخلعش جلده وهو عايش لوحده في الغابة لأن على الرغم من وحدته وابتعاده عن مصدر الأذى كان لسه برضه عايش تحت وطأة الأذى ده من خلال الخوف والغضب اللي شايلهم في قلبه واللي تمثلوا في رجوعه لبيت أهله للمرة التانية وإلحاقه الأذى بابنة الملك الأول.. ببساطة وجوده في بيئة مُحبة أعطت لهانس الشجاعة أنه يقوم بأكبر مغامرة في حياته، وهي أنه يكتشف حقيقة نفسه. وعلى الرغم من أن المغامرة دي كانت ممكن تودي بحياته (كان ممكن جدًا يموت بعد حرق الجلد لولا اهتمام الملك والأميرة وحصرهم على نجاته) إلا أنه أقبل عليها بصدر رحب.

ممكن رجوع هانس لأهله في النهاية بيدل على أنه فعلاً تخلص من شخصيته القديمة وكل الغضب اللي كانت محملة به تجاه الأب والأم، وبالنسبة له بقوا مجرد شخصين ربوه لفترة وهو صغير وبيرد لهم اللي عملوه وخلاص، وأنه بقى إنسان أفضل مائة مرة من هانس اللي ربوه على الذنب والخوف والاختباء. وعجبني أن التحول حصل من خلال النار.. من خلال “حرق” الجلد\الجسد القديم والتطهر منه في إشارة واضحة لأسطورة طائر العنقاء الشهير.

ومش قادرة أتصور الشوك اللي على ضهره القنفدي غير آليات دفاع أضطر هانس الصغير أنه يفضل شايلها طول عمره علشان يواجه بيها رفض الأهل والمجتمع ودخّلته في دايرة مفرغة من الغضب والنبذ فمابقاش عارف هو قنفد قبيح بسبب رفض أهله ولا أهله رفضوه بسبب أنه قنفد قبيح.. الدايرة المفرغة دي ماكسرهاش غير اختباره لمعجزة الحب والتقبل بشكلهم الحقيقي.

دمتم بلا أشواك..