النهاردة هنتكلم عن النحات القبرصي اللي خلدته الأساطير الإغريقية والرومانية ومن بعدهم الكثير من الأعمال الفنية والروائية والمسرحية والسينمائية.. هنتكلم عن بجماليون Pygmalion.

بجماليون كان نحات بارع ومشهور جدًا في قبرص وأعماله بتشهد له بده، بس مشكلة بجماليون الوحيدة أنه كان منعزل وبيؤثر الوحدة على التواجد مع البشر، خاصًة النساء. بجماليون ماكنش بيكره جنس النساء في المطلق، ولكن كان بيكره أن النساء البشريات دائمًا أقل من الصورة الفنية المثالية للمرأة في مخيلته، وكأي فنان فنه بيسيطر على فكره وحياته، بجماليون فضل يدور على الصورة المثالية اللي في دماغه وفشل أنه يلاقيها في نساء البشر، ففضل الانعزال للهروب من خيبات الأمل. في روايات أخرى للأسطورة، يُقال إن بجماليون كره النساء البشريات بسبب بنات بروبيتوس The Propoetides. بنات بروبيتوس دول محتاجين قصة لوحدهم بس سريعًا هم مجموعة من الفتيات أعرضوا عن عبادة ربّة الجمال فينوس Venus (اللي هي أفروديت Aphrodite في الأساطير الإغريقية) ففينوس عاقبتهم بأنها أشعلت فيهم رغبة جنسية لا تُشبع، فبقوا بيمارسوا البغاء عمال على بطال كده، وبجماليون لما شاف أن جمالهم بيذوي وبيضيع على الأعمال اللاأخلاقية دي كره النساء كلهم (راجل غريب أوي بس ما علينا).
المهم أن بجماليون قرر يعمل المرأة المثالية اللي في مخيلته ونحت تمثال على هيئة فينوس كما يتصورها. بجماليون قعد فترة طويلة جدًا ينحت ويحنتف في التمثال لحد ما بقى آية في الجمال فعلاً.. مع مرور الوقت، هوس بجماليون بمنحوتته بدأ يزيد يوم عن التاني وبقى يقضي وقت أكتر معاها ويكلمها ويجيب لها الهدايا والمجوهرات ويحضنها ويبوسها. بجماليون لما لاحظ أنها كده هربت منه خالص يا عيني وأنه أوشك على الجنون راح معبد فينوس علشان يصلي، وهناك تمنى في سره – ولكن من قلبه – أنه يلاقي امرأة صورة طبق الأصل من منحوتته الحبيبة. فينوس سمعت أمنيته واستجابت..
بجماليون رجع بيته وهو قلبه مثقل بالحزن وأول ما شاف منحوتته حضنها علشان يهون على نفسه وبدأ يبوسها.. ولكنه شعر بشيء غريب جدًا!
أول ما شفايفه لمست شفايف التمثال، بجماليون حس أنهم دافيين وأنهم فقدوا ملمسهم العاجي البارد. بجماليون ساب التمثال وقال “بس! أنا اتجننت خلاص رسمي كده”.. وبعدها بشوية حاول يقرب من التمثال تاني وفعلاً لما لمسها لقى جسم المنحوتة دافي، ولما ركز شوية لاحظ أن أطرافها بدأت تتحرك حركات خفيفة. بجماليون اتسمر في مكانه مابقاش عارف ينطق ولا يتحرك وهو شايف منحوتته الجميلة بتدب فيه الحياة وبتتحرك وبتبتسم له. فينوس استجابت لأمنية بجماليون وبدل ما تهديه امرأة في جمال المنحوتة، نفخت في المنحوتة نفسها الحياة وبقت امرأة جمالها لا يخطر على مخيلة إنسان.
بجماليون، بعد ما تجاوز الصدمة، أسمى منحوتته الحية جالاتيا Galatea وتزوجها وعاش معاها حتى مماته.

أسطورة بجماليون من أشهر الأساطير اللي وصلت لنا بسبب تصويرها في العديد من اللوحات والأعمال الدرامية وأشهرهم طبعًا في العصر الحديث مسرحية جورج بيرنارد شو George Bernard Shawاللي بتحمل نفس اسم بطلها. المسرحية بتتناول قصة أستاذ صوتيات بيقرر أنه يحول بنت بسيطة لدوقة من خلال تعليمها طريقة كلام وتصرفات وتفكير الطبقة العليا، أنه يحولها لامرأة حقيقية وينفخ فيها الحياة.. بس الحياة كما يراها هو.
أي قراءة حديثة للأسطورة بطبيعة الحال هتشوف بجماليون إنسان بغيض مهووس بالكمال مطلع عقده وهوسه على البشر من حواليه، بس أعتقد محتاجين نشوف بجماليون بعين الرأفة شوية ونقرأ الأسطورة على أنها حكاية رمزية عن علاقة الفن/الخيال بالواقع.
أحيانًا بحس أن الفن الحقيقي بيفرض على الفنان الهوس بالمستحيل. وجود الصورة المثالية المتخيلة للأشياء دي هي المنبع اللي بياخد منه الإلهام وبالتالي بينتج فنه. الفيلسوف اليوناني أفلاطون Plato بيقول لنا إن الوجود بينقسم لعالمين: عالم حسي/مادي وعالم حقيقي. العالم الحسي هو اللي احنا فيه ده وبيتضمن أي شيء موجود حوالينا سواء مادي أو معنوي.. يعني الشجرة اللي هتشوفها لو بصيت من شباك أوضتك دلوقتي تنتمي للعالم الحسي، وفكرتك عن الصدق والأمانة اللي أنت بتمارسهم مع أصحابك وفي شغلك برضه تنتمي للعالم الحسي. أفلاطون بيقول إن العالم الحسي ده مجرد انعكاس، صورة غير مكتملة للعالم الحقيقي اللي بتتواجد فيه الأشياء والأفكار بصورتها الكاملة الثابتة المثالية. يعني على سبيل المثال، البنت اللي أنت شايفها أجمل كائن في الدنيا هي مجرد انعكاس لصورة الجمال المثالية اللي عمرنا ما هنقدر نوصلها.. والحب اللي أنت حاسه في قلبك لها هو برضه مجرد انعكاس منقوص لفكرة الحب المثالية في العالم الحقيقي. كل حاجة في حياتنا بنستمدها من العالم الحقيقي، وعلشان كده النقصان هو سمة الواقع. كل حاجة في الدنيا دي إحساسنا بيها بيبقى ناقص أول ما بتتحقق على أرض الواقع مهما توهمنا أنها كاملة. أفلاطون ماحددش بالظبط إيه هو العالم الحقيقي وإزاي نقدر نوصل له بس وصفه بأنه عالم الروحانيات أو عالم ما قبل وبعد الواقع.. العالم الحقيقي ممكن يبقى العالم الأخر للمتدين، أو عالم الخيال للفنان، أو كلاهما للإنسان.

ومن هنا ممكن نفهم ضرورة الهوس بالمُتخَيل بالنسبة للفنان، لأن الخيال المستحيل هو منفذه الوحيد لرؤية العالم الحقيقي. فاكرين لما اتكلمنا قبل كده عن أورفيوس Orpheus وعن بان Pan وإزاي أن لحظة التخلي عن الواقع – مهما كانت الخسارة الناجمة عن ده فادحة – كانت هي بالظبط لحظة التحقق؟ وده لأن مجرد النظر إلى العالم الحقيقي، مجرد إلقاء نظرة خاطفة على الأشياء بصورتها الكاملة، بينتج عنه نشوة لا يضاهيها أي شيء في العالم الحسي. ومن هنا ممكن نفهم شوية قصد صلاح جاهين في رباعيته الشهيرة:
“أنا اللي بالأمر المحال اغتوى
شوفت القمر نطيت لفوق في الهوا
طلته مطلتوش – إيه أنا يهمني؟
وليه ما دام بالنشوى قلبي ارتوى”
المنحوتة هي الأمر المحال اللي بجماليون اغتوى بيه ورفض أنه يقبل أي صورة حسية “ناقصة” بسببها. وبالتالي فموضوع أن الحياة تدب في التمثال ده ويتحول لجالاتيا ملهوش غير تفسيرين ملهومش تالت: التفسير الأول هو أن بجماليون أمعن في خياله حتى تحول لجنون وانفصال تام عن الواقع لدرجة أنه شاف منحوتته تمثال بيتنفس وبيتكلم وبيتحرك، وده معناه أنه فضل عايش حياته كلها مع تمثال.. حي في مخيلته فقط. والتفسير التاني هو أن فينوس استجابت لأمنية بجماليون كما هي وفعلاً حطت في طريقه امرأة بارعة الجمال ولكن بجماليون، المهووس بالكمال، فضل شايفها على أنها منحوتته، والتفسير ده مأساوي لأن المرأة الواقعية المسكينة اللي هو تزوجها هتفضل طول الوقت تعاني تحت وطأة الصورة الكاملة اللي بجماليون شايفها بيها وفارضها عليها، وما أعتقدش فيه أقسى من أن الإنسان اللي بتحبه مايتقبلش نواقصك ويشوفك بصورة تانية غير صورتك، حتى لو الصورة دي كانت مثالية.

فيه فيلم بعتبره معالجة رائعة للأسطورة من إنتاج عام 2013 اسمه The Best Offer (أنصحكم تتفرجوا عليه قبل قراءة الجزء اللي جاي ده علشان ماحرقهوش عليكم) بيحكي قصة خبير ومُثمن فني في العقد السادس أو السابع من عمره اسمه فيرجيل. بالرغم من عبقريته وحسه الفني الرفيع، فيرجيل – زي بجماليون بالظبط – كانت حياته الإجتماعية شبه منعدمة وكان واخد جنب ومنعزل عن الناس، خاصًة النساء. وبرضه زي بجماليون، فيرجيل كان بيجمع لوحات فنية قديمة وحديثة قيمتها الفنية لا تُقدر بمال في مخبأ سري في بيته مابيدخلهوش إنسان غيره، القاسم المشترك بين اللوحات دي أنها كلها لنساء. النساء اللي في اللوحات كانوا بالنسبة لفيرجيل زي المنحوتة لبجماليون.. الصورة الكاملة “الحقيقية” للمرأة.

المهم أن فيرجيل في يوم بيستقبل مكالمة تليفونية من فتاة شابة اسمها كلير بتطلب منه يجي يقيّم الأعمال الفنية في قصر أهلها اللي لسه ميتين. فيرجيل بيرفض في الأول وبعد محاولات بيوافق وفعلاً بيروح القصر. الأغرب من القصر والأعمال الفنية المثيرة للاهتمام اللي فيه أن كلير ماكنتش بتظهر أبدًا وكانت بتتواصل مع فيرجيل من خلال التليفون وكل مرة بتعتذر عن الحضور بحجة شكل. فيرجيل بيتضايق بس برضه الفضول بيثيره، خصوصًا مع وجود عمل فني “غريب” في البيت أشبه بقطع متفرقة لإنسان آلي معمول من ميكانيكا معقدة تعود للقرن التاسع عشر بس محتاج للتجميع والتركيب. فيرجيل بيلجأ لصديقه المهندس اللي بيساعده في تركيب الإنسان الآلي وبيحكي له عن الفتاة الغامضة صاحبة القصر.
في يوم فيرجيل بيكتشف أن كلير عايشة في مخبأ سري في القصر وأنها طول الوقت ده كانت موجودة بس مابتحبش حد يشوفها بسبب خوفها المرضي من الناس. فيرجيل بيبدأ يتواصل مع كلير من خلال حيطة وبيستمتع بمناقشاتهم وبيعجب بيها وبيلاقي نفسه بيحكي لها عن حياته وبيغير من نفسه علشانها. لكن طبعًا الفضول بيتمكن من فيرجيل وبيدفعه أنه يتسلل للقصر بدون علم كلير علشان يشوفها وبيتفاجأ بفتاة باهرة الجمال. اختصارًا للأحداث، فيرجيل بيتعلق بكلير وهي كمان بتتعلق بيه.. هو بيساعدها تتغلب على خوفها من الناس والخروج للشارع وهي بتساعده يتغلب على خوفه من أنه يفتح قلبه ويشارك مشاعره. وفي يوم، فيرجيل بياخد كلير لمخبأه السري وبيفرجها على لوحاته الثمينة في مشهد عظيم بيوضح تجسد كل خيالات فيرجيل المستحيلة في شخصية كلير.
صعب مانلاحظش التشابه الواضح بين بجماليون وفيرجيل وإزاي أن الاتنين اتهوسوا بصورة مثالية للمرأة (أو للعمل الفني) في خيالهم.. الصورة دي تمثلت في المنحوتة بالنسبة لبجماليون وفي اللوحات بالنسبة لفيرجيل. وزي ما بجماليون ارتبط بمنحوتته وأصبحت هي محبوبته الصماء اللي بتدب فيها الحياة، فيرجيل كمان ارتبط بلوحاته لدرجة أن الحياة دبت فيها بالتدريج في صورة كلير.. أو هكذا خُيل له..
في نهاية الفيلم، فيرجيل بياخد صدمة عمره لما يكتشف أن كلير وقصرها والليلة دي كلها جزء من عملية نصب كبيرة خطط لها صديقه المهندس، بمساعدة صديق آخر، علشان يسرقوا الأعمال الفنية في مخبأه السري. فيرجيل بيخسر ثروته ولوحاته وبيخسر كلير.. ولكن مشهد النهاية بيصوره، بعد مرور شهور، وهو قاعد في مكان كانت كلير قالت له بتحب تزوره وهي صغيرة، قاعد لوحده ومستنيها وابتسامة شوق على وجهه.
النهاية قد إيه جميلة وحزينة في نفس الوقت وبتفسر لنا ليه وإزاي بجماليون فضل عايش مع جالاتيا طول عمره. انتظار فيرجيل لكلير بيأكد على تمسكه بالصورة المتخيلة المثالية عن كلير اللي على الرغم من تهدمها على صخرة الواقع هيفضل متمسك بيها للأبد.. وده لأنه عشق الصورة الكاملة لكلير اللي بتنتمي للعالم الحقيقي مش صورة كلير اللي بتنتمي للعالم المادي الناقص.
قد نتهم بجماليون وفيرجيل بالخبل والسذاجة لكن تمسكهم بخيالهم هو السبب في أن المنحوتة تحولت لجالاتيا وأن لوحات فيرجيل تحققت في كلير.. وبشوف أن الحياة الحق لم تدب في المنحوتة وفي اللوحات ولكن في بجماليون وفيرجيل، وأن خيالهم وهوسهم بالمستحيل حولهم من شخصين منغلقين إجتماعيًا وعاطفيًا لعاشقين أذاب قلبيهما الحب.


ومين عارف؟ يمكن كتير من اللي اقتبسوا ومضة، مهما كانت خافتة وضئيلة، من العالم الحقيقي قُدّر لهم أن يعيشوا دائمًا على نورها.. نورها اللي بتخبو جانبه أضواء الواقع.
دمتم، دائمًا وأبدًا، في خيال.
جميل جدا.. أشكرك
إعجابإعجاب
إكتشفت إنى أعشق الخيال بسبب قِصَصِك. مُتعه.
إعجابإعجاب
يا خرابي! كبير عليا الكلام ده 😀
إعجابإعجاب
كالعادة السود رائع وعجبني جدا ربطك بين الأسطورة والقراءة الفنية المشابهه لها
إعجابإعجاب
with your written you gave me a piece of the real world , thank you for that ♥️
إعجابإعجاب
Oh! This means a lot :))) Thank you
إعجابإعجاب
عجبتني خطوة السايت الجديد ده مبروك 👏،
حابب اقولك ان طريقتك في الكتابة شيقة جدا وممتعة استمري في الكتابة و أمتعينا .. ❤
إعجابإعجاب
عارفة الرد جاي متأخر 10 سنين بس متشكرة جدًا والله 😀
إعجابإعجاب
عظمة ❤️ يبقى حاجة حلوة اوي لو عملتيهم بودكاست❤️
إعجابإعجاب
تسلمي يا رانيا 🙂 البودكاست بقى موجود دلوقتي
إعجابإعجاب