النهاردة هنتكلم عن المرأة الأولى وفقًا للأساطير الإغريقية، صاحبة العطايا ومُطلقة كل الشرور.. هنتكلم عن الجميلة باندورا Pandora

علشان نفهم دوافع وأسباب ظهور شخصية باندورا محتاجين نوسع السياق ونرجع بالقصة شوية. كنا حكينا قبل كده عن ثورة زيوس Zeus على أبوه كرونوس Cronus والحرب اللي شنها مع بقية الآلهة على جنس العملاقة Titans. زيوس والآلهة طبعًا انتصروا في الحرب دي وحكموا الكون وحبسوا العمالقة في باطن الأرض ما عدا البعض اللي زيوس قرر يعفوا عنهم، بروميثيوس Prometheus وأخوه إيبيميثيوس Epimetheus كانوا من العمالقة دول.
زيوس بدأ في تعمير الأرض وأوكل لبروميثيوس مهمة خلق الإنسان ولأخوه إيبيميثيوس خلق الحيوانات وأداهم شنطة من العطايا يوزعوها بالتساوي على الكائنات اللي هيعملوها. إيبيميثيوس عمل الحيوانات كلها وقعد يوزع عليهم من شنطة زيوس السرعة والشراسة والقدرة على الطيران والافتراس وغيرهم، في الوقت ده بروميثيوس كان لسه قاعد يحنتف في المخلوق بتاعه اللي صنعه من تراب ومياه ولما جيه الوقت أنه يديه من عطايا زيوس لقى أن إيبيميثيوس خلصهم كلهم! بروميثيوس أشفق على الإنسان وقرر يجعل له الأفضلية على حيوانات إيبيميثيوس بأنه يخليه يقف ويمشي على رجليه وأنه يستخدم النار، ده غير أنه راح من ورا زيوس وأقنع أثينا Athena تنفخ فيه علشان تعلمه الحِرف وتديه من ذكائها. جميل جدًا، المشكلة بقى ظهرت لما علاقة بروميثيوس بالإنسان تحولت من شفقة لحب.. بروميثيوس بقى عايز يساعد الإنسان بأي شكل وبقى يعلمه كل حاجة يعرفها. وفي يوم وزيوس بيقرر شكل الأضحية اللي هيقدمها له كل نوع من الكائنات، بروميثيوس خدع زيوس علشان يخلي النصيب الأكبر من الأضحية للإنسان والجزء الأصغر للآلهة. زيوس لما عرف أتجنن طبعًا وعلشان يعاقب بروميثيوس أخد النار من الإنسان وحكم عليه يعيش أهطل في الضلمة كده للأبد.
بروميثيوس قلبه أتقطع على الإنسان اللي مش هيعرف يعمل حاجة من غير النار، والحيوانات على الأرض هتتفوق عليه وهتاكله وغالبًا مش هيطلع عليه صبح. فعمل إيه بقى؟ بروميثيوس سهّى زيوس وطلع جبل الأوليمب وسرق النار من غير ما الآلهة تحس ورجع بيها الأرض أداها للإنسان تاني.
لكم أن تتخيلوا غضب زيوس لما عرف بخداع بروميثيوس له للمرة التانية! زيوس المرة دي أنزل أشد عقاب ببروميثيوس والإنسان.. الاتنين! عقاب بروميثيوس الأبدي كان أنه يتربط على قمة جبل وكل يوم الصبح يجي نسر ياكل كبده ببطء شديد، وبليل بيطلع لبروميثيوس كبد جديد علشان اليوم اللي بعده يجي النسر ياكله تاني.. وهكذا.
أما الإنسان بقى فعقابه كان من نوع آخر…

زيوس استدعى إله النار والحدادة هيفايستوس Hephaestus وقال له “بص بقى يا هيفا، أنا عايزاك تعمل لي مخلوق زي الإنسان ده من تراب ومياه بس إيه يكون أجمل بمراحل.. وريني شطارتك!” هيفايستوس راح جايب ربّة الجمال والحب أفروديت Aphrodite وعمل الكائن الجديد ده على هيئتها بالظبط. هيفايستوس لما عرض المخلوقة الجديدة على الآلهة انبهروا بيها وزيوس دعا كل واحد منهم أنه يهديها هدية.. أفروديت طبعًا أهدتها الجمال والرغبة، أثينا أهدتها الفطنة وخفة اليد (المقصود بيها قدرتها على النسج مش السرقة)، هيرميز Hermes أهداها معسول الكلام، أبولو Apollo أهداها الرقة والصوت العذب، زيوس أهداها الطبيعة اللعوب، وأخيرًا.. هيرا Hera أهدتها الفضول.
بعد ما أنعموا عليها بكل الهدايا دي، الآلهة اسموا المخلوقة الجميلة دي باندورا.. بمعنى صاحبة العطايا.
زيوس أخد باندورا من إيدها ونزل بيها على الأرض يقدمها زوجه لإيبيميثيوس أخو بروميثيوس. وبرغم تحذيرات أخوه السابقة له بعدم قبول هدايا من الآلهة، إيبيميثيوس زي الأهبل ريّل على باندورا ووافق يتجوزها. وفي يوم زواجهم، زيوس أرسل هيرميز بهدية غريبة جدًا..
هيرميز راح لباندورا وفي إيده جرّة (زلعة يعني) مقفولة وقال لها “ألف مبروك يا عروسة! زيوس باعت لك الهدية الحلوة دي وبيقول لك أوعي تفتحيها.” باندورا استغربت جدًا وسألت هيرميز “طيب جواها إيه؟ وليه مافتحهاش؟”.. هيرميز رفع أكتافه وعلى وشه ابتسامة خبيثة: “وحياة زيوس ما أعرف، علمي علمك” وسابها ومشي. باندورا فضلت باصة للجرّة باستغراب شديدة وهي مش فاهمة طيب لو هدية ليه مطلوب منها ماتفتحهاش؟ باندورا حاولت جاهدة تلتزم بأوامر زيوس بعدم فتح الجرّة لحد ما الفضول تملك منها وفتحتها فعلاً.. وفجأة خرج منها أصوات خافتة مرعبة وريحة وحشة، وماعدتش ثواني إلا لما باندورا أدركت إيه اللي خرج من الجرّة وقفلتها تاني بسرعة.
بسبب فضولها، باندورا أطلقت سراح الموت والكراهية والعنف والخديعة والمرض وكل الشرور اللي موجودة على الأرض لحد دلوقتي، وللأسف لما جت تقفل الجرّة قفلتها على الحاجة الحلوة الوحيدة اللي كانت محبوسة معاهم: الأمل.
وبكده يبقى زيوس قدر ينكد على بني الإنسان كلهم للأبد زي ما عمل مع بروميثيوس.
طبعًا عقاب زي ده كفيل يخلي الرجل يلعن المرأة في كل زمان ومكان، وده اللي كان بيحصل فعلاً كل مرة الأسطورة بتتحكي، لأن الخلاصة كانت بتبقى أن المرأة هي أصل الشرور والسبب في عذاب الإنسان على الأرض. وطبيعي أن الفهم ده للأسطورة أتسرسب للقصص الديني وهنلاقي حواء بتُتهم بأنها السبب في خروج آدم من الجنة بسبب ضعفها وفضولها اللي خلوها تقنع آدم يعصي الأوامر وياكل من الفاكهة المحرمة. واضح أن المرأة مكروهة من زمان ومع الوقت بقى فيه نوع من الإحلال.. بدل ما الجرّة\الفاكهة هي اللي كانت رمز للغواية، أصبحت المرأة هي رمز الغواية والدافع وراء عصيان الأوامر الإلهية. بس قبل ما نصدق على الكلام ده مستشهدين بأسطورة باندورا محتاجين نسأل نفسنا شوية أسئلة:
ليه زيوس استخدم باندورا كوسيط لإطلاق الشرور في الأرض؟ مش كان ممكن يرمي الزلعة من فوق جبل الأوليمب على الإنسان ونخلص؟ يا تقع على نافوخه تموته يا تنزل متدشدشة والشر اللي جواها يخرج. ليه خلى باندورا أنثى وأداها القدرة على إعطاء الحياة؟ ليه قبل ما ينزلها على الأرض وهبها كل العطايا دي؟
الحقيقة أن عقاب زيوس للإنسان أذكى مما يبدو.. زي ما قولنا، زيوس كان يقدر ببساطة شديدة يطلق الشرور على الأرض بنفسه، لكنه فضّل يرسل نسخة إنسانية أجمل وأكثر جاذبية تكون هي السبب في إطلاق الشرور دي علشان يشعل النزاع بين النسختين أو النوعين دول: الذكر والأنثى، فبالتالي بدل ما الإنسان يلوم زيوس على العقاب المجحف ده اللي ملهوش ذنب فيه، يلوم باندورا.. وبكده يبقى زيوس عاقب الإنسان من غير ما يخسر ولاءه لأنه عمل نفسه الشخص الطيب في القصة اللي نبّه على باندورا ماتفتحش الصندوق على الرغم من تأكده أنها هتفتحه علشان الفضول اللي هو عارف أنها مخلوقة منه. الموضوع فكرني بقصة من الفولكلور الفرنسي اسمها “صاحب اللحية الزرقاء” بتحكي عن ملك غني أتجوز فتاة جميلة وعيشها في قصر كبير، القصر كان فيه غرف عديدة مليانة بالمجوهرات والأموال. الملك أعطى لزوجته مفاتيح كل الغرف وقال لها إن ممكن تفتح أي غرفة نفسها فيها ما عدا الغرفة الأخيرة. طبعًا البنت تملكها الفضول وفتحت الغرفة وزوجها الملك مش موجود ولقت فيها جثث زوجاته السابقات. هل ساعتها ممكن نلوم البنت على فتحها للغرفة؟ وأن فضولها حرمها من حياة سعيدة مع الملك؟ عصيانها للأوامر وأتباعها لفضولها لا ينفي حقيقة أن زوجها مجرم وقتال قتلة يستحق العقاب وأن الأذى كان هيلحق بيها عاجلاً أم آجلاً. بالظبط زي ما زيوس هو السبب في وضع الشرور في الصندوق في المقام الأول (الجرّة في الروايات اللاحقة أتحولت لصندوق).

وده من الأسباب اللي مخلياني أعتقد أن عقاب زيوس بتاع الصندوق والشرور اللي جواه والكلام ده كله منظر لإيهام الإنسان أن السبب في بؤسه هو باندورا في حين أن السبب كان ولا يزال سرقة بروميثيوس للنار. يعني الشرور اللي بيعاني منها الإنسان دي مش سببها الصندوق اللي اتفتح، إنما النار اللي فتحت للإنسان سبل التطور والتقدم، وبالتالي التنافس والكراهية والسيطرة وغيرهم كنتيجة طبيعية لسرقة المعرفة.
حب المعرفة والتطور اللي نتج عن تملك الإنسان للنار هو مصدر الغواية الحقيقي.. مش باندورا ولا صندوقها. وناخد بالنا أني هنا مش بعفي باندورا من حب المعرفة لأن الفضول جزء منه برضه. باندورا فقط بدأت ما هو محتوم.
اللطيف بقى أن كلمة باندورا نفسها باليوناني أختلف المترجمون عليها وقالوا إنها ممكن تعني صاحبة العطايا بمعنى أنها أخدت عطايا من الآلهة أو بمعنى واهبة العطايا يعني هي نفسها مخلوقة علشان تهب العطايا للإنسانية.. قد تكون طبيعة باندورا العذبة وقدرتها على المشاركة والاحتواء وإعطاء الحياة هي الهبات اللي بتمنحها للإنسان لموازنة شرور خطيئة النار. والألطف كمان بقى أن القصة بتنتهي بأن باندورا بتحتفظ بالصندوق بعد ما فرغت محتوياته إلا من الأمل اللي بيبقى في حوزتها.. فتصبح باندورا هي واهبة العطايا والأمل.
أنصحكم كمان بسماع الحلقة الجميلة دي من البودكاست بتاع ناتالي هاينز فيه معلومات أكتر
رأي واحد حول “باندورا.. صاحبة العطايا”