بما أن حدوتة المرة اللي فاتت كانت عن الجديان، النهاردة هنتكلم عن الأسطورة الإغريقية وراء المجموعة النجمية المسماة بالجدي Capricorn، هنتكلم عن الجدي الحكيم بريكوس Pricus..

الجدي الحكيم بريكوس كائن أسطوري نصفه العلوي جدي ونصفه السفلي سمكة كان عايش في أعماق البحار. بريكوس بيتميز بذكائه وحكمته وقدرته على التحكم في الوقت، ودي قدرة اكتسبها من مرشده كرونوس Chronos التجسد الإلهي للزمن (وده غير الإله كرونوس أبو المدعوق زيوس).
بريكوس كان عنده أطفال كتير وكان بيحبهم جدًا طبعًا، وفي يوم أكبر أولاده قرر يطلع يستكتشف اليابسة شكلها عامل إزاي، وبالرغم من تحذيرات بريكوس ابنه برضه ساب المياه وطلع يقعد على اليابسة. وأول الغيث قطرة، أولاد بريكوس قعدوا يتسرسبوا واحد ورا التاني علشان يطلعوا يكتشفوا اليابسة. المشكلة كانت أن أول ما واحد من أبناء بريكوس بيتعرض للهواء وضوء الشمس كان بيفقد ذكاءه وقدرته على الكلام وديله بيتحول لرجلين وبيبقى معزة عادية عبيطة بتاكل وتمأمأ بس، وبالتالي مابيقدرش يرجع لبيته في أعماق البحر تاني. وجيه اليوم اللي بريكوس لقى نفسه فقد كل أولاده بعد ما اتحولوا لجديان أرضية لا تفقه شيئًا.
من كسرة قلبه على أولاده اللي مش هيقدر يشوفهم تاني، بريكوس قرر يستخدم قدرته الخارقة على التحكم في الزمن ورجع بالزمن للوقت اللي أطفاله كانوا لسه معاه وساعتها الكون كله أتعمله reset للحظة دي. بريكوس حاول يحذر أولاده من مخاطر الصعود لسطح الأرض وأنهم مش هيقدروا يرجعوا له تاني بس للأسف ضربوا بكلامه عرض الحائط وطلعوا برضه والقصة اتكررت تاني بحذافيرها. بريكوس راح رجع بالزمن تاني وحاول المرة دي بقى يقنع أولاده بطريقة مختلفة للعدول عن قرارهم، والنتيجة طبعًا كانت إنه فشل وفقد أولاده للمرة التالتة. في المحاولة التالية بريكوس نهرهم وحاول يمنعهم بالقوة لكنهم عاندوه وفشل.. والموضوع فضل يتكرر بالمنظر ده، وكل مرة ينتهي بكسرة قلب بريكوس على أولاده.

أسطورة بريكوس وأطفاله بتجسد العلاقة الكلاسيكية بين الأب\الأم وأولادهم. الأب عايز أولاده جنبه في البيئة المألوفة له ولهم علشان يضمن لهم الأمان والرعاية، والابن عايز يبعد ويكتشف ويتطور ويعتمد على نفسه. محاولات بريكوس لمنع أولاده من الخروج من كنفه كلها باءت بالفشل، وهو شاف أنهم لما بعدوا عنه حالتهم اتدهورت وتحولوا من كائنات مفكرة واعية لحيوانات مُساقة. ولكن لو بصينا على الموضوع بشكل مختلف ممكن نقول أن تحول أولاد بريكوس لحيوانات تطور مش تدهور، الأولاد كانت لازم هيئتهم وتفكريهم يتغير علشان يعرفوا يتعايشوا في البيئة الجديدة (اليابسة).. كانوا هيعملوا إيه بديل السمكة وقدرتهم على الكلام على الأرض؟ وده معناه أن عملية تغير الأولاد كانت ضرورية ومهمة لقدرتهم على التكيف في مكانهم الجديد. بس برضه لازم ناخد بالنا أن حزن بريكوس على أولاده مكانش بس بسبب تحولهم ولكن كمان بسبب نسيانهم لماضيهم وبيتهم تمامًا. والأسئلة اللي الأسطورة مابتجاوبلناش عليها: هل الأولاد فعلاً نسيوا أبوهم وبيتهم ولا فضلوا فاكرين ولكنه ماقدروش يرجعوا بسبب فقدانهم لديلهم وقدرتهم على التنفس تحت المياه؟ هل التغيير بيحتم علينا نسيان جزء من ماضينا علشان نعرف نكمل؟
الأسطورة كمان نموذج معتاد لسيناريو Groundhog Day اللي البطل بيلاقي نفسه فيه بيعيش أحداث يوم بعينه – غالبًا بتحصل له مصيبة أو بيموت في أخره – مرارًا وتكرارًا، وهو بيحاول جاهدًا أنه يغير من نتيجة اليوم ده وللأسف بيفشل كل مرة. ده بالظبط اللي بيحصل مع بريكوس، الفرق بس أن تكرار اليوم ده بيبقى عادًة خارج إرادة البطل في حين أن بريكوس في القصة هو المتسبب في رجوع الزمن وتكرار السيناريو كل مرة، ولكن في النهاية النتيجة بتكون واحدة لأن بريكوس برضه بيكتشف أن مفيش فايدة في معاندة القدر وأن النتيجة حتمية مهما تغيرت الطرق.
الفيلسوف الألماني الشهير فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche أشار لحاجة شبيهة أثناء كلامه عن فكرة العود الأبدي. ببساطة، نيتشه بيقول إن ممكن الكون والحياة دي كلها تكون اتكررت عدد لانهائي من المرات ولسه هتتكرر عدد لانهائي من المرات، كل مرة الكون بينتهي وبيبدأ تاني من جديد بنفس التفاصيل والأحداث والتغيرات وبيواجه نفس النهاية وبيبدأ تاني وهكذا. وده بينطبق علينا طبعًا لأننا جزء من الكون، حياتنا اللي احنا عايشينها دي بمجرد ما نموت هنكُرها من الأول تاني بكل تفاصيلها لحد ما نموت تاني.. ونرجع الحياة تاني ويبدأ الشريط من الأول.. وهكذا.


كلام نيتشه ده زي ما هو احتمالات فلسفية ممكن برضه نربطه بالاحتمالات العلمية الخاصة بنشأة الكون ونهايته. يعني احتمالية الانفجار العظيم The Big Bang بتقول لنا إن الكون ده هو نتيجة انفجار أو تمدد للطاقة، وعلشان كده حياتنا في حالة تمدد دائم والزمن بيسير في اتجاه معين مابيرجعش. النظرية دي أدت لظهور احتمالية أخرى وهي الانكماش أو الانسحاق العظيم The Big Crunch واللي بتقول إن بعد ما الكون ينتهي من التمدد الناتج من الانفجار هينكمش على نفسه ويرجع لحالته الأولى.. بالظبط زي ما بتشد الأستك وتسيبه فبيرجع تاني. هل يا ترى انكماش الطاقة هيتسبب في إنفجار آخر؟ يعني كون تاني هيبدأ ويتمدد وينكمش ويتمدد تاني وينكمش ويتمدد وينكمش إلى مالانهاية؟ وهل في كل الأكوان اللي بتبدأ وتنتهي دي كل نسخة مننا بتتصرف زي التانية؟ هل مصائرنا بتفضل واحدة؟ هل بنختار نفس الاختيارات وبنعمل نفس الأخطاء وبنواجه نفس الأقدار؟
نظرية العود الأبدي بتفكرني شوية بنظرية الأكوان المتعددة (الاتنين ولو اختلفت فيهم الطرق فالمصائر بتفضل واحدة)، الفرق بس أن في الأكوان المتعددة حيواتنا متوازية في حين أن في العود الأبدي حيواتنا متتالية. المثير للاهتمام في النظريتين دول هو مدى إدراكنا للتكرار.. يعني لو افترضنا، مجرد افتراض، أن النظريات دي صحيحة هل إدراكك أن حياتك بتتكرر أو هتتكرر هيغير من نظرتك للحياة إزاي؟ هل هيديك أمل ولا هيحبطك أكتر؟
نيتشه بيسألنا نفس السؤال ده وبيقول لنا تخيلوا أن حياتكم دي هتفضلوا تعيشوها عدد لا نهائي من المرات بنفس تفاصيلها؟ هل هتشدوا في شعركم وتخبطوا دماغكم في الحيطة ولا هتفرحوا؟ أصل طول ما احنا مش مدركين للتكرار فتمام مش هنحس بحاجة، زي أولاد بريكوس كده. المشكلة كلها لما نبقى زي بريكوس وندرك أن كل حاجة من حوالينا بتتكرر. نيتشه بقى بيرد على السؤال رد غريب وبيقول إن احنا المفروض نفرح ونستمتع بقدرنا اللي احنا عارفينه وده ما اسماه بحب القدر أو amor fati.
حد ممكن يطلع يقول لنا “إيه الجنان اللي أنت بتقول له ده يا عم نيتشه! يعني أنا بتعذب في حياتي دلوقتي وعارف أن كل مرة هفضل أتعذب نفس العذاب، إيه اللي يدعو للانبساط في الغم الأبدي ده؟!” كلام سليم، بس قد تكون وجهة نظر نيتشه عن حب القدر المكرر حتى ولو كان سيء هو التخلي عن الأمل في التغيير\الخلاص اللي هو السبب في بؤسنا أصلاً. كل مرة الواحد بينام مهموم بيصحى همه مضروب في ألف لما بيلاقي نفسه في نفس الوضع، وده بسبب أنه بيبقى عنده أمل، ولو واحد في المليون، أنه ممكن يصحى يلاقي حاجة اتغيرت. حب القدر هيخلينا ندرك أن الحزن وكسرة القلب سببها الأمل الخادع في التغيير.. هيخلينا ندرك أن مصيرنا مش هيتغير بالشغلانة اللي نفسنا فيها ولا بالبلد اللي نفسنا نسافرها ولا بالشخص اللي نفسنا نرنبط بيه ولا.. ولا… وبالتالي حب القدر هيقفل باب الندم لأن لو تخليت عن الأمل ده هتبطل تلوم نفسك على اختياراتك السابقة وهتدرك أن في النهاية كلها متساوية.
وده بيفكرنا شوية بنفس اللي قاله الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو Albert Camus عن مأساة سيزيف Sisyphus اللي عاقبته الآلهة بدفع صخرة لأعلى قمة الجبل علشان في النهاية تقع ويزقها تاني ويفضل كده للأبد. كامو بيقول لنا إن سيزيف هيبقى سعيد لما يدرك أن حياته كلها تتمثل في محاولة دفع الصخرة للقمة، بلا معاني وأهداف عظيمة وبلا أحلام في الخلاص أو الراحة الأبدية.


وهو ده السمو اللي بيتكلم عليه نيتشه وسر تقبله للعود الأبدي لو كان صحيحًا.
في نهاية الأسطورة، وبعد ما بريكوس بيفضل يجيب الزمن من أوله عدد مهول من المرات وبرضه بيفشل في منع أولاده من الرحيل، كرونوس – إله الزمن – أشفق على حال بريكوس ورفعه من أعماق البحر للسماء وحوله لمجموعة نجمية علشان يقدر يشوف أولاده الجديان على الأرض ويتابعهم من منزلته السماوية الجديدة. قد تكون النهاية دي بتمثل السمو الرمزي اللي بيتكلم عليه نيتشه.. إنك تسمو وتشوف الصورة كاملة وتدرك أنك مهما فركت وشقلبت الزمن وجبت الدنيا من أولها لأخرها مليون مرة مش هتقدر تغير حاجة غير رؤيتك لنفسك وللكون.
