سنووايت ورُمّانة

النهاردة هنتكلم عن أشهر شخصية من الفولكلور الألماني ونظيرتها من الفولكلور العربي، هنتكلم عن سنووايت Schneewittchen ورُمّانة..

أكيد كلنا عارفين قصة “سنووايت والأقزام السبعة” اللي نشرها الأخوان جريم لأول مرة في مجموعتهم القصصية الشهيرة عام 1812، وسواء قريتوا الحدوتة الأصلية أو سمعتوها أو شوفتوا فيلم ديزني فده لأن قصة الأميرة الجميلة اللي زوجة أبيها – المهووسة بمرآتها المسحورة – بتحاول تقتلها أكتر من مرة بدافع الغيرة انتشرت كالنار في الهشيم على مر العصور وأخدت مئات الأشكال واكتسبت المعاني المختلفة. اللي معظمنا مايعرفهوش بقى أن سنووايت تسللت للفولكلور الشفوي العربي وظهرت في حدوتة من بلاد الشام اسمها “رمّانة”.. ونبدأ الحدوتة.

كان ياما كان، في سالف العصر والأوان، كان فيه ملك وزوجته ربنا رزقهم بكل حاجة نفسهم فيها ما عدا الأطفال، وفضلوا سنين طويلة فعلاً مش عارفين يخلّفوا وكانوا بيدعوا ربنا يرزقهم بولد أو بنت يفرحوا بيهم، لحد ما في يوم جالهم شخص غريب معاه سلة من الرمّان. الراجل ده أدى الملكة ثمرة رمّان وطلب منها تقسمها نصفين، تاكل هي النص والملك ياكل النصف الآخر. حصل فعلاً، ويا سبحان الله، بعد تسعة شهور الملكة خلفت بنت جميلة اسمتها رُمّانة.

مرت الأيام ورمّانة فضلت قُرة عين أبيها وأمها. الملك والملكة كانوا بيحبوا رمّانة بجنون وبيخافوا عليها من الهوا، وعلشان كده كانوا حابسينها طول الوقت في القصر مابتشوفش حد ولا حد بيشوفها إلا الملك والملكة ومربيتها والحراس بتوعها. رمّانة كبرت وبقت فتاة جميلة، ولكنها أبتدت تزهق من حياتها وكونها حبيسة القصر طول الوقت ومحرومة من اكتشاف العالم والتواصل مع الجنس الآخر. وفي يوم من الأيام، وبعد زن ومحايلات مضنية من رمّانة، الملك والملكة سمحوا لها تطلع في نزهة للغابة القريبة من القصر بس بصحبة المربية والحراس طبعًا. رمّانة أول ما شافت منظر الأشجار والورود والعصافير اتهبلت من الجمال وقعدت تجري وتضحك وتروح يمين وشمال، كل ده والمربية والحراس بيجروا وراها مرعوبين أنها تتوه منهم. رمّانة اتخنقت من مراقبة المجرمين اللي هي متراقباها دي وقررت في لحظة تهور أنها تسهي المربية والحراس وتهرب منهم علشان تشم نفسها بعيد عنهم. رمّانة نجحت في الهروب وقعدت تتجول في الغابة بسعادة لدرجة إنها نسيت نفسها ونسيت طريق الرجوع.

رمّانة فضلت أيام بتمشي في الغابة واجهت خلالها مصاعب كثيرة ولكن في النهاية، بعد ما أعياها المشي والجوع والعطش، شافت كوخ صغير شكله مسكون (ناس مش عفاريت). رمّانة دخلت الكوخ ومالقتش فيه حد بس أكلت الأكل اللي موجود، ولما حست بالذنب أنها دخلت بيت وأكلت أكله دون استئذان قررت أنها تنضف البيت وتنضف هدوم أصحابه. ولما حست برجوع أصحاب البيت، استخبت في الدولاب خوفًا أنهم يعنّفوها ويطردوها. رمّانة، وهي مستخبية في الدولاب، اكتشفت أن أصحاب البيت ثلاثة أخوة، بيسيبوا البيت كل يوم الصبح علشان يصطادوا وبيرجعوا أخر اليوم يأكلوا اللي اصطادوه ويناموا. طبعًا الأخوة الثلاثة لما شافوا البيت نضيف استعجبوا وافتكروا أن فيه جني أو عفريت في البيت، خصوصًا أن الموضوع بقى يتكرر كل يوم. كل يوم يرجعوا يلاقوا البيت نضيف وهدومهم مغسولة. في النهاية الأخوة اكتشفوا وجود رمّانة وحكت لهم قصتها.

الأخوة رحبوا بوجود رمّانة معاهم وعاملوها كأخت صغرى لهم. كل يوم يروحوا يصطادوا ورمّانة بتاخد بالها من البيت، ده غير أن رمّانة كان لها حرية التجول في الغابة علشان تجيب الفاكهة والحبوب وغيره. الأربعة عاشوا في سعادة بالشكل ده سنين لحد ما في يوم رمّانة قابلت غول في الغابة! رغم أن رمّانة حاولت تتهرب منه لكن الغول خدعها وعرف مكان كوخها. الغول بقى ينط لرمّانة كل يوم في غياب أخوتها ويطلب منها تفتح الباب (علشان ياكلها هم النم)، لكن هي طبعًا كانت بترفض وبتفضل واقفة ورا الباب في رعب. في مرة الغول طلب منها طلب غريب جدًا.. طلب منها تخرّج له صباعها من خرم الباب وإلا هيهد الكوخ على دماغها. رمّانة من خوفها سمعت كلامه والغول بدأ يمص الدم من صباعها! كل يوم الغول بقى يجي عند كوخ رمّانة ويطلب منها تخرّج صباعها وهو يمص دمها.

رمّانة ماقلتش لأخوتها عن زيارات الغول لأنها كانت خايفة عليهم منه، بس هم بدأوا يلاحظوا أن أختهم بتخس وصحتها بتضعف ولما أصروا يعرفوا منها إيه السبب قالت لهم عن الغول وزياراته اليومية. الأخوة نصبوا شرك للغول وقدروا يقتلوه بعد مشقة. وهم بيحتفلوا بموت الغول، فجأة لاقوا رمّانة وقعت ميتة!

الأخوة المساكين حاولوا يعملوا كل حاجة علشان يرجعوا أختهم للحياة ولكن بلا فائدة. طبعًا حزنوا حزن شديد عليها لدرجة أن ماجلهمش قلب يدفنوها، فصنعوا صندوق من الزجاج وحطوا فيه جثة رمّانة وحطوا الصندوق على ظهر جمل وطلقوه.

الجمل فضل ماشي بلا أي هدف كده لحد ما شافه أمير وشاف الصندوق الزجاجي اللي رمّانة نايمة\ميتة فيه. الأمير أتهوس بجمال رمّانة وقرر ياخد الصندوق معاه القصر. في القصر، الملكة شافت الصندوق وقالت لابنها “إيه يا بني المصيبة اللي أنت جايبهالي القصر دي!” الأمير قعد يتكلم عن جمال رمّانة وإزاي أنه عايز يحتفظ بيها للأبد. في النهاية الأم منعته من الهبل ده وأقنعته أن إكرام الميت دفنه. الملكة وهي بتغسّل جثة رمّانة لقت في كعبها ظفر (ظفر الغول) وبمجرد ما شالته رمّانة هوب صحيت فطت حية!

علشان ماطولش عليكم.. رمّانة تزوجت من الأمير وخلفت منه وعاشت في سعادة وقدرت أنها تلاقي أمها وأبوها وأخوتها الثلاثة وجابتهم يعيشوا معاها في مملكتها الجديدة وتوتة توتة خلصت الحدوتة.

التشابه بين قصة سنووايت وقصة رمّانة واضح وضوح الشمس، بس اللي يهمني أكتر الاختلافات اللي قد تكون حدثت بسبب انتقال الحدوتة من ثقافة لأخرى أو من أجل إضافة بُعد آخر لها.. أو – ممكن! – نكتشف في الأخر أن الاختلافات دي مش اختلافات ولا حاجة وأن الحدوتتين بيكملوا بعض لتقديم رؤية أعمق لمغزى القصة.

لو بدأنا بالظروف اللي أدت بالأميرة الصغيرة أنها تسيب القصر، هنلاقي أن سنووايت سابت القصر قهرًا هروبًا من زوجة أبيها الملكة الشريرة، في حين أن رمّانة هربت من القصر طوعًا هروبًا من اهتمام أبيها وأمها الزائد وحمايتهم المفرطة. الاتنين بيمثلوا نموذجين من التربية الخاطئة: الغيرة والنفور من الطفل، والاهتمام المفرط بيه.. ورغم أن الاتجاهين على النقيض إلا أن النتيجة كانت واحدة وهي فرار الابن من الآباء إما بحثًا عن الاهتمام والحب وإما بحثًا عن الحرية لأن في الحالتين الابن بيحس أن وجوده مهدد وأنه لازم يسيب “البيت” علشان يشعر بذاته. ولكن ده عمره ما بيكون نهاية الأمر ولا بداية سعادة الابن لأن الرحلة الحقيقية بتبدأ بعد الخروج من كنف التربية الخاطئة.

كنا اتكلمنا قبل كنا عن الـ monomyth الخاصة برحلة البطل، أو النموذج المتكرر لشكل رحلة البطل في الأساطير الإغريقية. وقولنا أن الرحلة دي بتتكون من ثلاث مراحل مهمة: 1) الرحيل (انفصال البطل عن وطنه\عالمه)، و2) مواجهة التحديات (الصعاب اللي بيواجهها البطل)، و3) العودة (رجوع البطل لوطنه\عالمه المألوف). طيب هل ينفع نطلق على رحلة الابن أو البنت في الاستقلال عن الأهل والتخلص من تأثيرهم السيء “رحلة بطل”؟ آه طبعًا، وده اللي هنثبته من خلال رحلة سنووايت ورمّانة..

مرحلة الرحيل في رحلة سنووايت ورمّانة كانت خروجهم من القصر وابتعادهم عن العائلة، ودي كانت لأسباب مختلفة زي ما اتكلمنا فوق. المرحلة الثانية من الرحلة (مرحلة التحديات والصعوبات) بتبدأ لما سنووايت ورمّانة بيتوهوا في الغابة وواحدة بتلاقي كوخ فيه سبعة أقزام والتانية بتلاقي كوخ فيه ثلاثة صيادين. والمثير في الاهتمام أن الكوخ – بساكنيه – في الحدوتتين هو انعكاس لرغبات البطلة الدفينة. سنووايت بتلاقي في الكوخ سبعة من الأقزام أشبه بالأطفال في شكلهم وتصرفاتهم، وكل واحد منهم بيمثل حالة نفسية مختلفة (المتسلط، الفرحان، الزعلان، الكسلان، الخجلان.. إلخ. ودي إضافة لاحقة للقصة) وفيه تفسيرات للقصة بتقول إن دي أجزاء من شخصية سنووايت نفسها اللي فشلت تظهرها كطفلة طبيعية أثناء وجودها في القصر بسبب تسلط الملكة الشريرة (وعلى فكرة في القصة الأصلية اللي نقحها الأخوان جريم لاحقًا، الملكة الشريرة كان أم سنووايت مش زوجة أبيها). سنووايت بتعيش في سعادة وسلام مع الأقزام السبعة، كأنها بتعيد خلق مرحلة الطفولة اللي فقدتها بسبب الملكة. نفس الموضوع بيحصل مع رمّانة، أثناء وجودها في الكوخ بتعيش رغبتها الدفينة في أن يكون لها حرية التحرك والتصرف وتحمل المسؤولية وأن يكون لها أقران من الجنس الآخر يعاملوها بحب واحترام. المرحلة دي من رحلة سنووايت ورمّانة بتفكرني باحتجاز الحورية كاليبسو Calypso للبطل الإغريقي أوديسيوس Odysseus على جزيرتها لمدة سبع سنوات على الرغم من رغبته في العودة للوطن. أوديسيوس وهو معاها كان مسحور.. متبنج بالنعيم الزائف اللي هي معيشاه فيه وافتكر أنه كده خلاص هرب من مشاكله وعايش في الجنة. الجزء ده من رحلة البطل ممكن نسميه بـ “الوصول الزائف” لأن البطل بيتخيل أن رحلته انتهت ونعيمه تحقق.

وده للأسف اللي بيحصل مع الابن لما بيهرب من سلطة الآباء بجسده ويتخيل أنه وصل لنهاية رحلته الصعبة، لحد ما بيكتشف أن التأثير النفسي للعلاقة الخاطئة هو الوحش الحقيقي وأنه أصعب مليون مرة من الهروب المادي. الوحش أو التأثير النفسي ده بيتجسد في قصة سنووايت في شكل الملكة الشريرة اللي بتتنكر وبتروح لسنووايت في ثلاث هيئات مختلفة (وده يورينا قد إيه التأثير النفسي دحلاب دحلاب) علشان تحاول تموتها، وفي قصة رمّانة بيتجسد في صورة الغول اللي بيتردد على كوخها علشان يمص دمها ويموتها. إحساس سنووايت بانعدام القيمة وعدم الاستحقاق اللي نتج من علاقتها بأمها قد يكون هو التفاحة المسمومة اللي تسببت في موتها، زي ما إحساس رمّانة بالذنب لهجر والديها اللي نتج من حمايتهم المفرطة قد يكون هو ظفر الغول اللي تسبب في موتها.

هل بموت سنووايت ورمّانة بيفشلوا للوصول للمرحلة الأخيرة من رحلة البطل، العودة؟ وهل هما عايزين يرجعوا أصلاً؟ إذا كان هما هربانين من الوطن، هيرجعوا تاني ليه؟ بس لازم نفهم أن المقصود بالعودة هنا هو التصالح مع النفس والرجوع إلى أسباب المشكلة ومحاولة فهمها مش بالضرورة الرجوع المادي. قد يكون ده اتحقق لما سنووايت تخلصت من التفاحة المسمومة في حلقها وانتقمت من الملكة الشريرة (على فكرة في قصة الأخوين جريم الأمير مابيبوسهاش ولا حاجة، ده واحد من أتباعه بيتكعبل وهو شايل الصندوق فالتفاحة بتخرج من حلق سنووايت)، ولما رمّانة تخلصت من ظفر الغول وأعادت أهلها ليها ولكن بشروطها وكملكة مستقلة متوجة على مملكتها الخاصة. واستخدام التفاحة هنا له دلالات دينية وفلسفية لا يمكن التغاضي عنها، التفاحة – كرمز للغواية – زي ما أخرجت آدم وحواء من الجنة برضه أخرجت سنووايت من مرحلة الطفولة لمرحلة البلوغ، وكأن القصة بتقول لنا إن الوصول للحكمة والتحقق هو نوع من الغواية الضرورية لأنه بيحتم علينا ترك البراءة خلفنا. وبما أن الظفر الطويل عندنا في الثقافة العربية الشعبية مرتبط بالشر والشيطان، فده بيرسخ نفس دلالة التفاحة في قصة سنووايت.

 فيه قراءات كئيبة شوية لقصة سنووايت بتقول لنا إن سنووايت بتموت فعلاً وإن الجزء الخاص بزواجها من الأمير والسعادة الأبدية ده بيمثل دخولها الجنة. فكده هي عادت آه بس عادت عند ربنا! وده معناه أن رحلة البطل مش على طول بتكلل بالنجاح الأرضي الملموس.

بعيدًا عن التفسير ده، أكتر جزء مُقبض بالنسبة لي في قصة سنووايت ورمّانة بيتمثل في الأيام اللي بيقضوها في الصندوق الزجاجي لا أحياء ولا أموات.. مجرد وجود مادي جميل بيجذب الآخرين، عالقين بين البراءة والحكمة، بين التمسك والتخلي. كنت قولت لكم قبل كده عن مجموعة قصصية رائعة للكاتب الأمريكي مايكل كاننجهام Michael Cunningham بيعيد فيها سرد الحواديت الفولكلوروية الشهيرة من منظور مختلف، وفي قصة “Poisoned” بيصور لنا حياة سنووايت السعيدة مع الأمير وأن الأمير بيطلب منها يلعبوا لعبة أنها ترجع للصندوق الزجاجي تاني وتتظاهر بأنها ميتة. الأمير بيقول لها إنه عايز يرجع كحلم أو إمكانية مثيرة بالنسبة لها، بس ماذا لو الأمير كمان عايز سنووايت ترجع للصورة – الميتة – الجميلة اللي أتهوس بيها لأنه لما عرفها اكتشف أن مفيهاش حياة أبعد من تلك الصورة.. وأنها ما زالت عالقة في الصندوق الزجاجي، لم تتجاوز.. ولم تصل.

دمتم عائدين لا عالقين.


رأي واحد حول “سنووايت ورُمّانة

اترك رد