بنات داناوس ومعضلة الإرادة الحرة

النهاردة هنتكلم عن قصة بنات داناوس The Danaides من عالم الأساطير الإغريقية وهنحاول نربطها بمعضلة فلسفية شاغلة الإنسان من ساعة ما وعي وقال يا دنيا..

نبدأ الأسطورة من عند ايجيبتوس Aegyptus وداناوس Danaus، توأمان، الأول كان بيحكم ما يُعرف الآن بمنطقة الجزيرة العربية ومصر والثاني كان بيحكم ليبيا (طبعًا الكلام ده تاريخيًا بلح بس الإغريق كان خيالهم واسع شوية). اللطيف في الموضوع مش بس أن ايجيبتوس وداناوس توأمان، كمان كل واحد منهم كان عنده خمسين طفل، ايجيبتوس كان عنده خمسين من الذكور وداناوس عنده خمسين من الإناث.. قدرة مبهرة على التحكم في كروموسومات الأجنة الصراحة.

المهم، بما أن ايجيبتوس كان جشع فكان طول الوقت عينه على مملكة أخوه، وبمجرد ما أولاده كبروا شوية وبقوا شباب عرض على داناوس يجوزهم البنات في محاولة واضحة منه للاستيلاء على مُلك توأمه. داناوس حاول يتهرب من العرض ده بشتى الطرق ولكن ايجيبتوس كان راكب دماغه، لحد ما داناوس قرر في يوم أنه يشحن بناته في سفينة ويهرّبهم لمدينة أرجوس Argos في اليونان. ملك أرجوس في الأول رفض يستقبل بنات داناوس علشان مايعملش مشاكل مع ايجيبتوس بس في النهاية رضخ وخبى البنات في مملكته فعلاً. طبعًا ايجيبتوس كان عنده ودان وعيون في كل مكان وبمجرد ما عرف أن البنات في أرجوس بعت وراهم أولاده الخمسين.

أول ما أولاد ايجيبتوس وصلوا أرجوس الملك رفض يستقبلهم علشان مايخدوش بنات داناوس اللي في حمايته (راجل ابن حلال برضه). بس للأسف هددوه بالحرب وأنهم هيدكوا أرجوس على دماغه لو أصر على موقفه لحد ما الراجل جاب ورا يا عيني ووافق يدخلهم المدينة. وهناك داناوس، اللي كان ساعتها لحق ببناته في أرجوس، وافق مرغمًا على زواج أبناء ايجيبتوس من بناته ولكن ذهنه تفتق عن فكرة جهنمية..

داناوس أجتمع ببناته الخمسين يوم الفرح وأعطى لكل واحدة خنجر تخبيه تحت مخدتها، وقال لهم بنبرة آمرة “بكرة الصبح عايز كل واحدة منكم تدخل عليا براس جوزها، واللي هتفشل في تنفيذ الأمر ده أنا هعاقبها بنفسي.”

وبعد انتهاء الاحتفالات، كل ولد أخد عروسته وهو لا يطيق الانتظار طبعًا.. وكانت المذبحة!

في الصباح التالي، داناوس قعد رِجل على رِجل في انتظار بناته وبالفعل دخلوا عليه واحدة ورا التانية، كل واحدة فيهم ممسكة برأس زوجها.. ما عدا ابنة واحدة، هايبرمنيسترا Hypermnestra، اللي دخلت على أبيها خالية الوفاض.

داناوس اتشال واتحط وسأل هايبرمنيسترا بجنون “فين راس جوزك يا منيلة!” هايبرمنيسترا ردت عليه بخوف أن زوجها لونكيوس Lynceus سمع اللي حصل في أخوته فهرب قبل ما تقدر تقتله. لكن طبعًا هايبرمنيسترا كانت كدابة في أصل وشها وكان باين عليها، واللي حصل فعلاً أنها وقعت في حب لونكيوس لما لاحظ قلقها وماحولش يفرض نفسه عليها، فعلشان كده كشفت له عن خطة داناوس وسمحت له بالهرب.

داناوس حاكم بنته في محكمة عامة بسبب مخالفة أوامره (ساعتها مخالفة أوامر الأب كانت بمثابة مخالفة أوامر الآلهة) وكان عايز ينزل بيها أشد عقاب، لكن لحسن حظ هايبرمنيسترا المسكينة، أفروديت Aphrodite ربّة الحب والجمال وقفت جنبها وخلصتها من الهبل اللي بيحصل ده، ويُقال إنها بعد فترة قدرت تجتمع بلونكيوس تاني وعاشوا في تبات ونبات بعيدًا عن أبيها.

أما البنات التانيين بعد ما قضوا حياتهم في الدنيا مبسوطين وماتوا أمرت الآلهة بإرسالهم لتارتاروس Tartarus (الجحيم في عالم الأساطير الإغريقية) عقابًا على المذبحة اللي عملوها في أولاد ايجيبتوس، وكان عقابهم الأبدي أنهم يحاولوا يملوا وعاء كبير علشان يستحموا فيه ويتطهروا من ذنوبهم، لكن المشكلة أن الوعاء ده كان مخروم.. فكل ما يحاولوا يملوه المياه تتسرب منه فيحاولوا يملوه تاني فالمياه تتسرب.. وهكذا للأبد.

نهاية القصة قد تبدو لأول وهلة منطقية والدرس المستفاد أن الخير والحب نهايتهم نعيم والشر والعنف نهايتهم جحيم، بس الكلام ده لو بنحكي القصة لأطفال في السابعة من عمرهم. التناقض الرهيب بين مصير هايبرمنيسترا ومصير أخوتها يخلينا نفكر في اللحظة الفارقة اللي أدت لاختلاف مصائرهم بالشكل ده. إيه اللي خلى الـ 49 بنت يطيعوا داناوس؟ وإيه اللي خلى هايبرمنيسترا تعصاه؟ هل ده بسبب حاجة حصلت خلاها تغير رأيها؟ ولو فعلاً السبب في تغيير رأيها هو لطف لونكيوس معاها، يبقى تصرفها ده كان رد فعل مش إرادة متأصلة جواها لرفض العنف في المطلق. ولو ده اللي حصل فعلاً يبقى ذنب البنات التانية إيه أن أزواجهم مكانوش زي لونكيوس؟ مش يمكن لو كانوا زيه كانت البنات امتنعوا عن قتلهم زي ما هايبرمنيسترا عملت؟ أو ممكن نختصر كل الأسئلة دي في سؤال واحد: هل عفت هايبرمنيسترا عن لونكيوس بإرادتها الحرة؟

علشان نجاوب على السؤال ده، للأسف، هننزلق في مناقشة ماهية الإرادة الحرة وجدلية هل الإنسان مخير أم مسير وهنمسك في خناق بعض. الحقيقة إن موضوع الإرادة الحرة ده شغل الفلاسفة من قديم الزمان، واللي عقّدّ الموضوع أكتر وجود الأديان وفكرة الإله العالم بمصائر عباده. معظم الفلاسفة وعلماء الدين كانوا مايلين ناحية تأكيد وجود الإرادة الحرة وأن امتلاك الإنسان حرية الاختيار لا يتناقض مع وجود إله على دراية باختياراته أو وجود قوة ما – فسيولوچية أو ميتافيزيقية – بتتحكم في اختياراته، وده المنهج اللي اتسمى بالتوافقية Compatibilism. وكانوا بيقولوا إن رفض الإيمان بوجود إرادة حرة تتيح للإنسان الاختيار بين الخير والشر أو الصح والغلط هينفي بالتبعية وجود المسئولية الأخلاقية وفكرة الثواب والعقاب سواء في الدنيا أو في الآخرة والدنيا هتبقى بزرميط خالص.

في العصور الحديثة رجعوا العلماء والفلاسفة ينكشوا في موضوع الإرادة الحرة دي تاني. في القرن التاسع عشر مثلاً، العالم البريطاني توماس هنري هكسلي T. H. Huxley نفى موضوع الإرادة الحرة ده تمامًا وقال إن الإنسان ما هو إلا آلة واعية.. يعني احنا على وعي باختياراتنا لكن غير قادرين على التحكم فيها لأنها نتيجة عمليات فسيولوچية ونفسية معقدة. يعني أنت لما تيجي تختار بين جزمتين واحدة لونها أبيض والتاني أسود بتفتكر أن عندك حرية الإرادة في الاختيار، ولكن اللي بيحصل فعلاً – وفقًا لكلام هكسلي – هو أن تفضيلك للون عن التاني بيرجع لچيناتك ولخبرات سابقة أثرت على تركيبة دماغك، ده غير المعطيات الخارجية اللي بتأثر على قراراتك زي أنك مثلاً عايش في مدينة كلها طين فطبيعي هتميل للجزمة السودا.. وجود الحاجات دي كلها بينفي حرية الإنسان في الاختيار الحر الكامل المتكامل. فلو طبقنا كلام هكسلي على بنات داناوس وافترضنا أن الخمسين بنت مشتركين في نفس الچينات واتربوا بنفس الشكل وتركيبة دماغهم واحدة – وده مستحيل طبعًا – فوجود المؤثر الخارجي (لطف لونكيوس) أو غيابه هو اللي فرق في اختيار البنات لتنفيذ أوامر الأب أو معصيته. الموضوع عامل زي ما تكون جبت واحد وحبسته لمدة طويلة في أوضة مفيهاش شبابيك وكافئته في الآخر علشان مابصش من الشباك، في حين جبت واحد تاني حبسته برضه لمدة طويلة في أوضة مليانة شبابيك وعاقبته في الآخر علشان بص من الشباك!

المهم مع تطور العلم حاول الكثيرون إثبات غياب الإرادة الحرة بالأدلة والبراهين، وكان من أشهر التجارب دي تجربة العالم الأمريكي بينچامين ليبيت Benjamin Libet عام 1983. التجربة ببساطة هي أن ليبيت جاب كام متطوع وخلاهم يقوموا باختيارات بسيطة وقال لهم يدوسوا على زرار بمجرد ما يقوموا بالاختيار بشكل واعي، وبدأ في تسجيل نشاط دماغهم خلال التجربة دي. ليبيت لاحظ أن وجود نشاط ملحوظ في دماغ المتطوعين في الجزء الخاص باتخاذ القرارات من قبل ما هم يدوسوا على الزرار أصلاً، وده معناه – كما استنتج ليبيت – إن دماغنا بتاخد القرار بناءً على عوامل احنا مش على دراية بيها، وبعدين بنعي الاختيار ده وبنفتكر أن احنا السبب فيه، وده بيثبت أن الإنسان معندهوش إرادة حرة. طبعًا التجربة دي مليانة أخطاء كفيلة أنها توقف ليبيت على عربية كبدة، زي مثلاً إيه اللي عرف ليبيت أن النشاط اللي سجله ده فعلاً له علاقة بالقرار بتاع التجربة دي تحديدًا؟ وليه ليبيت ماحطش في الاعتبار التأخير الطبيعي بين الفكرة والحركة؟ يعني على ما المتطوعين يدركوا أنهم أخدوا قرار ما ويبدأوا في تحريك ايديهم للدوس على الزرار طبيعي يكون فيه فارق زمني.

طيب بلاش التجارب العصبية ونشوف التجارب الفكرية الفلسفية، واحد زي الكاتب الأمريكي سام هاريس Sam Harris بيدعونا في أحدى محاضراته للقيام بتجربة فكرية. هاريس بيطلب مننا نختار مدينة، أي مدينة في العالم، وبعدين بيطلب مننا نعيد التجربة تاني بس مع محاولة فهم إزاي وصلنا للاختيار ده. هاريس بيقول، أولاً، مخك عمره ما هيفكر في المدن اللي ماتعرفهاش، بالتالي أنت حصرت اختياراتك بس في المدن المعروفة ليك. ثانيًا، من المدن المعروفة ليك مخك هيختار من المدن اللي جات سيرتها قريب أو تأثرت بيها بشكل ما، يعني أنت ممكن تكون عارف مدينة هانوي بس عمرها ما هتيجي على بالك وقت الاختيار ده علشان مفيش مؤثرات لفتت انتباهك ليها مؤخرًا. فغالبًا هتختار مدينة زي مدريد علشان كنت بتتفرج على مسلسل أسباني امبارح، أو نيويورك علشان صاحبك الأنتيم عايش هناك، أو طوكيو علشان أنت بتحب الأنيمي.. إلخ. هاريس بيقول إن مش على طول هنقدر نفهم ليه اخترنا حاجة معينة دونًا عن غيرها، أغلب الأوقات الأسباب بتبقى مدفونة في اللاوعي أو في فسيولوچية جسمنا وكل اللي احنا بنعمله أننا بنشهد عملية اتخاذ القرار مش بنشترك فيها.

كل الهري ده يخلينا نتعاطف أكتر مع بنات داناوس اللي الظروف ماوفرتلهمش فرصة للتصرف بشكل مختلف، ونتعاطف أقل مع أختهم هايبرمنيسترا اللي الظروف وفرت لها الفرصة دي.

الحقيقة أن المعضلة اللي أتحطت فيها بنات داناوس مأساوية من كل الجوانب. الخمسين بنت أجبروا على الاختيار بين سلطة الأب الغاشمة وسلطة الزوج اللي عايز يمتلكهم جسديًا وسياسيًا. ده غير أنهم خُيروا بين أمر أبوي (وزي ما قولنا طاعة الأب كانت من طاعة الآلهة) وأمر فطري أخلاقي (اللي هي من الآلهة برضه!).. يا يختاروا الإخلال بالواجب الأبوي\الإلهي ويتعاقبوا من الأب، يا يختاروا الإخلال بفطرتهم البشرية الرافضة للقتل ويتعاقبوا من الآلهة. ولو افترضنا أن كان عندهم حرية الاختيار الكاملة فعلاً فالمفروض أنهم في الحالتين يتعاقبوا.. أو يتكافئوا. لكن فكرة تدخل الآلهة لتحويل عقاب هايبرمنيسترا لثواب وتحويل ثواب أخواتها لعقاب بيثبت أن الموضوع مُقدّر منذ البداية. الواحد مدرك أن الغدر والقتل مالهمش مبرر (مع أن الحروب على مدار التاريخ بيقولوا لنا عكس كده)، بس لو فعلاً البنات يستحقوا العقاب الأبدي، ليه داناوس ماتعقبش معاهم على تخطيطه لقتل أولاد أخوه؟ وليه هايبرمنيسترا ماتعقبتش على خيانتها لأبوها وأخواتها ومملكتها؟

كل مرة أقرأ الأسطورة لا أملك إلا الشعور بالحزن على مصير بنات داناوس اللي بيعانوا من عذاب أبدي في تارتاروس، وبفضّلّ الرواية الأخرى القائلة إن الفتيات اتحولوا لحوريات ماء وعلشان كده القدماء كانوا دايمًا بيصوروهم بجانب النافورات وينابيع المياه.. حيث لا اختيارات مستحيلة ولا انتظار مغفرة لا تأتي.


اترك رد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s