النهاردة هنتكلم عن أسطورة شهيرة وغريبة من الفولكلور الألماني وهي قصة “زمّار هاملن ذو الثياب المزركشة” The Pied Piper of Hamelin..

كتير مننا عارف القصة أو أتكعبل فيها في مرحلة ما في حياته، وده يرجع لسببين.. السبب الأول هو انتشار الحدوتة على يد العديد من الكتاب والأدباء في القرنين التاسع عشر والعشرين مثل الشاعر الألماني جوته Goethe والشاعر الإنجليزي روبرت براونينج Robert Browning والكاتب الألماني بيرتولت بريشت Bertolt Brecht وغيرهم، لكن اللي كان لهم التأثير الأكبر في انتشار القصة هما الأخوان جريم The Brothers Grimm بعد ما أخدوا الحدوتة من التراث الشعبي الألماني وأضافوها لمجموعتهم الشهيرة، وبعدها بمائة سنة تقريبًا اتحولت القصة لفيلم قصير للأطفال من إنتاج ديزني عام 1933. أما السبب التاني فهو الظروف الغريبة اللي بتحيط بـ “زمّار هاملن” واستنادها، كما يقول المؤرخون، على أحداث حقيقية، وده اللي بيخلي تأثيرها المخيف مضروب في عشرين.
ماله بقى زمّار هاملن ده؟
الحدوتة بتدور أحداثها سنة 1284 في مدينة صغيرة جدًا في الريف الألماني اسمها هاملن، وفي الوقت ده اجتاح المدينة وابل من الفئران حولوا حياة ساكنيها لجحيم.. الفئران انتشرت في كل مكان لدرجة أنهم كانوا بياكلوا أكل السكان وبيفسدوا مخزونهم ومحصولهم، ده غير تسببهم في انتشار الأمراض. أهل المدينة جربوا كل الطرق للتخلص من الفئران ولكن بلا جدوى (للأسف مكانش فيه الشركة الألمانية ساعتها)، لحد ما في يوم من الأيام عمدة المدينة قرر يعرض كيس ضخم من النقود كمكافأة لأي شخص يقدر يخلصهم من الفئران بأي وسيلة.
وفجأة، جاء للمدينة شخص شكله غريب وملابسه مزركشة وكان ماسك في إيده مزمار. الراجل قرب من العمدة بكل هدوء وقال له إنه يقدر يخلص هاملن من وباء الفئران، طبعًا العمدة وبقية السكان بصوا له من فوق لتحت وهم متأكدين أنه مجنون أو عبيط بس العمدة قال له “ماشي يا عم ورينا! ولو نجحت، المكافأة هتبقى من نصيبك.” ابتسم الراجل الغريب ابتسامة هادئة ورفع المزمار لفمه وبدأ في العزف. ومعدتش كام ثانية إلا وسكان المدينة كلهم كانوا واقفين مشدوهين من غرابة اللي بيحصل قدامهم..
أول ما الزمّار بدأ العزف، الفئران ابتدت تطلع من جحورها من كل مكان في المدينة وتتلم حواليه. استمر الزمّار في العزف وبدأ يتجه نحو أبواب المدينة والفئران وراه.. خرج الزمّار من المدينة وهو بيعزف لحنه الساحر والفئران وراه برضه، وفضل ماشي لحد ما وصل لنهر قريب ونزل فيه وهو لسه بيعزف.. والفئران وراه. طبعًا الفئران كلها غرقت في المياه وساعتها بس الزمّار توقف عن العزف.

أهل المدينة مابقوش مصدقين اللي شافوه بعيونهم إلا لما لقوا الزمّار واقف قدامهم بيطالبهم بالمكافأة المتفق عليها. وياللغرابة، سكان المدينة رفضوا يدفعوا المكافأة للزمّار بدافع أنه استخدم السحر لطرد الفئران وأن الكلام ده مايمشيش معاهم وإيه يضمن لهم أنهم مش هيرجعوا تاني والكلام الفاضي ده.. من الأخر يعني، سكان مدينة هاملن كانوا معفنين ملهمش كلمة. طبعًا الزمّار اتشال واتحطت ولما فشل تمامًا في إقناعهم بدفع المكافأة قلب لهم وشه وقال لهم بتوعد “بس افتكروا أن انتوا اللي جبتوه لنفسكم!”
بعد الحادث ده بكام شهر، وفي يوم صيفي مشمس جميل، سكان مدينة هاملن كانوا واخدين إجازة من أعمالهم وكان أغلبهم يا في الكنيسة يا نايم في بيته يا بيتشمس في الجونينة، ومعظم الأطفال بطبيعة الحال كانوا بيلعبوا في الشوارع والحدائق. وفجأة الأطفال سمعوا صوت موسيقى من بعيد.. لحن بديع لا يمكن مقاومته. وبدأ الأطفال واحد ورا التاني يهرولوا ناحية مصدر الصوت والأهالي نايمين في مياه البطيخ مش حاسين بحاجة خالص. وطبعًا كان مصدر الصوت هو الزمّار اللي واقف عند أبواب المدينة بيعزف ألحانه الساحرة. بدأ الزمّار في الابتعاد عن المدينة والأطفال بيجروا ويرقصوا وراه.. فضل يبعد يبعد.. والأطفال وراه، لحد ما أختفى تمامًا عن الأنظار هو وال 130 طفل اللي تبعوه.. للأبد.
قبل ما نبدأ في محاولة تحليل القصة المقبضة دي محتاجين نعرف أن للقصة أبعاد تاريخية والسبب في ده أن مدينة هاملن مدينة حقيقية موجودة لحد دلوقتي في ألمانيا. وفي القرن الرابع عشر تقريبًا اكتشفوا زجاج نافذة في كنيسة بيصور الزمّار بثيابه المزركشة والأطفال بتحيط بيه بملابسهم البيضاء كأنهم ملائكة، ده غير اكتشاف عبارة مكتوبة باللغة اللاتينية في الكتب القديمة بتقول “مر مائة عام منذ فقدنا مائة وثلاثين من أطفال هاملن للزمّار”.. جملة مرعبة جدًا خلت الكثير من المؤرخين يطلعوا بنظريات لتفسير اللي حصل فعلاً في هاملن في الوقت ده.

فيه مثلاً نظرية بتقول إن الأطفال كانوا بيُباعوا ويُهجّروا لمدن تانية في الوقت ده والزمّار بيرمز للتجار المسئولين عن عملية التهجير. وفيه مؤرخين بيقولوا إن الأطفال اتاخدوا من أهاليهم عنوة للمشاركة في الحروب، وقالوا إن لفظ “أطفال” المقصود بيها أبناء المدينة من الفتيان. وفيه نظريات أكثر قتامة بتقول إن الزمّار بيرمز لوباء اجتاح البلاد وقتها أودى بحياة 130 طفلاً من مدينة هاملن (وهنا ممكن نفهم ليه في نسخة ديزني من القصة الأطفال بيتبعوا الزمّار لمكان أشبه بالجنة مليان لعب وحلويات بيفضلوا فيه أطفال للأبد)، في حين أن فيه آراء أخرى بتقول إن كان فيه وباء آه بس الأطفال ماماتوش ولكن تم إخراجهم من المدينة للحفاظ على أرواحهم.
أكثر نظرية لفتت انتباهي لتفسير ما حدث هو أن الأطفال أصيبوا بمرض بيؤثر على الجهاز العصبي اسمه سيدنهام كوريا Sydenham’s Chorea وده بيتسبب فيه عدوى بكتيرية بتأثر على المخ والجهاز العصبي وبتخلي المريض غير قادر على التحكم في حركات جسمه وأطرافه.. كأنه بيرقص غصب عنه. ساعتها طبعًا المرض ده كان غير مشخص أو مفهوم، وعلشان كده لما انتشرت العدوى بين الأطفال وأدت لموتهم الناس لجأت للتفسير الخزعبلي بتاع الزمّار المسحور اللي بيعزف ألحان أجبرت الأطفال على الرقص و”الرحيل” من المدينة للأبد.
موضوع رقص الأطفال وهم خارجين من المدينة، سواء بسبب مرض أو غيره، لفت انتباهي لأنه بيدي للقصة بُعد رمزي جديد. فكرة الرقص نفسها في عالم الأساطير مهمة جدًا لأنها مش مجرد تعبير عن البهجة وإنما بتتشاف كطقس شعائري لخدمة غرض ما. في الأساطير الإغريقية مثلاً، أتباع دايونيسيوس Dionysus إله الخمر والعربدة كانوا بيعبروا عن ولائهم من خلال الانخراط في نوبات من الرقص الماجن. اللي شاف فيكم فيلم Midsommar (2019) – واللي هيشوفه بسبب الثريد ده يا ريت مايدعيش عليا – هيفهم الدور اللي بيلعبه الرقص في الفيلم. <تحذير حرق> الفيلم بيحكي عن فتاة اسمها داني بعد ما بتفقد أسرتها بتقرر تسافر مع صاحبها في رحلة للسويد لحضور احتفالات الصيف وهناك بينضموا لمجتمع قَبَلي غريب بيمارس شعائر غريبة. واحدة من الشعائر دي أن الفتيات بيرقصوا حوالين عمود لحد ما بيسقطوا من التعب واحدة ورا التانية لإحياء أسطورة عندهم بتقول إن الشيطان جاء للقرية وقعد يغوي البنات بآلته الموسيقية (واخدين بالكم من “آلته” دي؟) وفضلوا يرقصوا حواليه لحد ما ماتوا. في النهاية فيه فتاة واحدة بس اللي بتفضل واقفة وبتُنصب كملكة. الفيلم بيرمي بوضوح على باليه سترافينسكي الشهير “طقوس الربيع” Stravinsky’s The Rite of Spring (1913) واللي بيصور شعائر مماثلة بترقص فيه الفتيات حتى الإعياء والفتاة اللي بتفضل ترقص لحد الأخر بتُنصب ملكة وبيتم التضحية بيها من أجل قدوم الربيع. طقس الرقص سواء في باليه سترافينسكي أو في فيلم Midsommar مش الهدف منه الاحتفال وخلاص وإنما بيحقق غرض ما في النهاية.. في الباليه بيساعد على قدوم الربيع، كناية عن التفتح والنضوج، وفي الفيلم بيؤدي لتحقيق داني الانتقام من صاحبها، اللي أنا شوفته على أنه نوع من النضوج والتخطي\التخلي العاطفي.


ومن هنا ممكن نفسر رقص الأطفال وخروجهم من المدينة على إنه برضه طقس الهدف منه النضج وقطع التعلق العاطفي الطفولي بالأهل. يعني كأن القصة بتقول لنا إن الأطفال ماختفوش ولا حاجة، ولكنهم اختفوا بصورتهم كأطفال أبرياء في ذهن الآباء، وده بيوصف اللي بيحس بيه الأهل لما أولادهم بيفقدوا براءتهم وينتقلوا من مرحلة الطفولة للبلوغ.. كأن الطفل اللطيف البريء بيختفي وبيُستبدل بشخص آخر تمامًا. واللطيف أن في القصة الأصلية فيه طفلين بس مابيقدروش يجروا ورا الزمّار وبيرجعوا تاني لهاملن.. الطفل الأول كان أصم لا بيسمع ولا بيتكلم، فما قدرش يسمع الموسيقى ولا يوصف اللي حصل، والطفل التاني كان أعمى فمقدرش يمشي ورا الزمّار. وجود الطفلين دول في القصة بيفكرني بالقردة اليابانية الثلاثة الشهيرة اللي بتعبر عن مثل “لا أرى لا أسمع لا أتكلم شرًا”.. الطفلين دول حافظوا على براءتهم (حياتهم) لأنهم ماقدروش يشوفوا أو يسمعوا الزمّار.

التفسير ده بيلمح إلى أن النضوج شر أو نوع من التخلي عن البراءة، وده حقيقي لو حطينا في دماغنا أن التعرض للغواية هو أول خطوة من خطوات طريق الرشد أيا كان أسلوب التعامل مع الغواية دي. والمثير للاهتمام كمان اختيار شخصية الزمّار تحديدًا كرمز للغواية أو الانتقال من الطفولة للنضج.. في معظم الأساطير الشعبية الشيطان بيستخدم المزمار للغواية وفي الأساطير الإغريقية بان Pan إله المراعي والغابات – اللي صورته أقرب لصورة الشيطان في القصص الشعبي – كان برضه بيغوي النساء والحوريات بموسيقى المزمار بتاعه. في النهاية كأن القصة بتقول لنا إن الغواية مش حاجة شريرة في المطلق ولكنها مرحلة ضرورية لانتقال الإنسان من مرحلة الطفولة للنضج.
وليه أصلاً نشوف الزمّار على أنه شيطان أو شخصية شريرة؟ لو فكرنا فيها الزمّار ماضيعش الأطفال ولكن أنقذهم من مدينة مش بس مبتلاة بالفئران والأمراض ولكن بالنفوس السيئة. أهل مدينة هاملن حرامية ضلالية ورفضوا يدفعوا الفلوس للزمّار على الرغم من مساعدته لهم في محنتهم. ناس معفنة زي ما قولنا قدر أنه يخلص الأطفال الأبرياء دول منهم.
وممكن تكون القصة كلها رمز للموت، لخروج الروح من الجسد الفاسد لتحيا في مكان آخر، دائمًا طاهرة.. دائمًا بريئة.. دائمًا ترقص على ألحان الزمّار الساحرة.
.
.
.
ده تقرير عملاه الـ BBC عن المدينة وقصة الزمّار وتاريخها:
https://www.bbc.com/travel/article/20200902-the-grim-truth-behind-the-pied-piper
وده الموقع الرسمي لمدينة هاملن اللي فيه معلومات كتيرة عن القصة والنظريات اللي اتكلمت عنها: