فيلوكتيتس والهولدرا

النهاردة هنحكي أسطورتين من حضارتين مختلفتين.. قصة عن رجل إغريقي وأخرى عن امرأة إسكندنافية لعنتهما الآلهة وحكمت عليهما بالنبذ من الآخرين.

نبدأ بأسطورة فيلوكتيتس Philoctetes..

فيلوكتيتس كان محارب إغريقي مغوار مشهور بشجاعته وبنيته الضخمة وكان صديق مقرب للبطل هرقل Heracles، فيلوكتيتس كمان كان مثال للوفاء بدليل أن لما هرقل أتسمم وقرب يموت وبنى محرقته بإيده طلب من أصدقائه يشعلوا النار في جثته لكن كلهم رفضوا – خوفًا من هيرا Hera الحيزبونة اللي كانت بتعاقب أي حد بيساعد هرقل – ما عدا فيلوكتيتس اللي أخد الشعلة من هرقل وقال له “موت أنت بس يا زميلي وأنا هولع في جتتك.” هرقل تأثر بشجاعة ووفاء صديقة فيلوكتيتس وأهداه قوسه وسهامه الشهيرة الملطخة بدماء وحش الهيدرا Hydra. هرقل مات وفيلوكتيتس أحتفظ بقوس وسهام هرقل كأنهم جزء من جسمه.

مرت السنوات وقامت حرب طروادة الشهيرة وجُمع المحاربون الإغريق من كل حدب وصوب، وكان من ضمنهم طبعًا فيلوكتيتس. فيلوكتيتس وقتها كان لسه قوي وبصحته بس كبير في السن وعلشان كده أوديسيوس Odysseus – الرأس المدبرة في حرب طروادة – كان رافض ياخده معاه لكن في النهاية وافق رغم أنفه بسبب عهد قطعه فيلوكتيتس سابقًا لمساعدة زوج هيلين Helen اللي بسببها قامت الحرب.

المهم، وهما في طريقهم لطروادة أوديسيوس أمر طاقم سفينته أنهم يرسوا في جزيرة يرتاحوا فيها شوية. فيلوكتيتس بعد ما أتمشى على الجزيرة لساعات قعد على صخرة يلتقط أنفاسه، فهيرا انتهزت الفرصة وبعتت له حية سامة لدغته في رجله (لسه فاكرة تنتقم منه دلوقتي!). أوديسيوس أول ما شاف منظر الجرح وهو متقيح ومطلع ريحة وحشة ومخلي فيلوكتيتس يدخل في نوبات أشبه بنوبات الصرع قال لفيلوكتيتس بخباثة “خليك أنت مريح هنا يا عم الحاج وهنروح نجيب لك الدوا من السفينة ونرجع لك هوا” وطبعًا أخد بعضه وسفينته ورجالته ومشي وساب الراجل لوحده مصاب على الجزيرة يا عيني.

فيلوكتيتس فضل قاعد على الجزيرة لوحده بإصابته وحسرته لمدة عشر سنين.. عشر سنين وهو بيكلم نفسه وبيحاول يتحمل ألم الجرح اللي بيعذبه بدون موت، وهو بيحاول يفهم خيانة أوديسيوس وعقاب الآلهة له على مساعدة صديق عمره، كل ده وهو لسه متمسك بقوس وسهام هرقل اللي أصبحوا بلا جدوى ولا يحملوا أي قيمة لحد إلا لنفسه.. زيه بالظبط.

تعالوا نسيب فيلكوتيتس الغلبان شوية ونروح لحرب طروادة اللي أقتربت من نهايتها أخيرًا. الإغريق عرفوا من عراف طروادي أسير نبوءة غريبة جدًا وهي أنهم مش هيقدروا يدخلوا المدينة ويكسبوا الحرب إلا بوجود قوس وسهام هرقل. طبعًا كله بص شذرًا لأوديسيوس اللي كان عامل زي الفانلة المبلولة ساعتها. أوديسيوس ركب السفينة بتاعته وأخد معاه صديقه دايوميدس Diomedes وانطلقا إلى الجزيرة اللي سابوا فيها فيلوكتيتس. في الطريق للجزيرة أوديسيوس أتفق مع دايوميدس أنهم هيروحوا يسرقوا القوس والسهام من فيلوكتيتس لو لسه عايش أصلاً. دايوميدس قال له “طيب ليه الشر ده يا عم؟ ما نقنع الراجل يجي معانا وخلاص.” أوديسيوس رفض وقال إن فيلوكتيتس راجل عجوز ملهوش لازمة وهيبقى عايز ينتقم منهم وهيرفض يساعدهم فعلشان كده لازم يخدعوه.

أوديسيوس ودايوميدس نزلوا الجزيرة وقعدوا يدوروا على فيلوكتيتس لحد ما لاقوه في حالة من الهزال والضعف تصعب على الكافر، فأوديسيوس انتهز الفرصة وأخد منه القوس والسهام. فيلوكتيتس المسكين حاول يقاوم بس دخل في نوبة من النوبات بتاعته، المهم أن دايوميدس طلع ابن حلال وصعب عليه منظر الراجل العجوز وفضل قاعد جنبه لحد ما بقى كويس وأقنع أوديسيوس أنهم ياخدوه معاهم هو والقوس والسهام. أوديسيوس رجع بفيلوكتيتس لطروادة على مضض وهناك، زي ما النبوءة قالت فعلاً، الإغريق نجحوا في دخول طروادة أخيرًا وفيلوكتيتس اشترك معاهم في الحرب بعد ما عالج جرحه واحد من الأطباء.

قصتنا الثانية من عالم الحكايات الشعبية الإسكندنافية (اللي تأثرت لاحقًا بانتشار الديانة المسيحية وهنشوف إزاي) وبتحكي عن أن في يوم من الأيام الرب قرر يزور امرأة ويشوف أولادها.. في بعض الروايات من الأسطورة المرأة دي هي حواء، أو الأم الأولى. المهم أن الست دي قعدت تحمّي ولادها وتنضّف فيهم بس للأسف لما الرب زارها لقى أن بعض أطفالها لسه مانضفوش فأخدهم منها ولعنهم وفرض عليهم حياة من العزلة عقابًا على عدم طهارتهم.. واحدة من الأطفال دول كانت الهولدرا Huldra.

الهولدرا اترمت في الغابة وفُرض عليها أنها تفضل عايشة فيها بعيدًا عن القرى أوالمدن أو أي تجمعات بشرية. على الرغم من عقاب الهولدرا الغريب، الرب أهداها جمال أسطوري (وهنعرف بعد كده أنه مش نعمة ولا حاجة إنما جزء من العقاب) بس مع الجمال ده كان عندها ديل وظهر مجوف اللي دايمًا كانت بتحاول تخفيهم بشتى الطرق.

الهولدرا كانت بتقابل بعض من المسافرين والصيادين كل فين وفين، وطبعًا كانوا بيتهبلوا عليها وبتسحرهم بجمالها. الحزين في الموضوع أنها ماكنتش بتبقى عايزة تسبب أذى للصيادين دول إنما كانت بتفرح جدًا باهتمامهم وحبهم، ولكن للأسف لما بيقربوا منها ويعرفوا حقيقتها ويشوفوا ديلها وظهرها المجوف كان بيصيبهم الفزع أو بيحاولوا يموتوها وساعتها الهولدرا بتضطر تقتلهم وترجع لوحدتها تاني. يُقال كمان أنها كانت بتساعد الصيادين وعمال المناجم اللي بيعاملوها بلطف حتى بعد ما بيشوفوا ديلها وكانت بتدلهم على أفضل أمكان للصيد في الغابة. لاحقًا أتضاف للحكاية رواية أخرى وهي أن الهولدرا ممكن تترك طبيعتها الوحشية “القذرة” وترجع لطبيعتها البشرية “الطاهرة” لو وافق أحد الرجال على الزواج منها وأدخلها الديانة المسيحية وطبعًا واضح جدًا الرواية دي من الأسطورة ظهرت ليه.

إيه بقى علاقة عم فيلوكتيتس الطيب بالأخت الهولدرا الفاضلة؟

الاتنين الآلهة عاقبتهم لأسباب غير عادلة، فيلوكتيتس أتعاقب من هيرا بسبب العداوة بينها وبين هرقل والهولدرا أتعاقبت من الرب بسبب خطيئة أمها (ده لو اعتبرنا كونها ماحمّتش أولادها خطيئة أصلاً)، والأهم من ده شكل العقاب اللي تضمن النبذ بسبب طبيعتهم اللي محدش عايز يتقبلها.. الجيش الإغريقي مش عايز فيلوكتيتس علشان راجل عجوز مصاب والبشرية كلها مش عايزين الهولدرا علشان هي وحش قبيح متخفي في صورة امرأة جميلة.

بس لو فكرنا فيها هنلاقي أن طبيعة العقاب أذكى وأقسى من كده كمان بكتير. العقاب ماحرمهمش من تقبل الآخرين وصحبة البشر وبس، لأ ده أداهم معاه “هبة” عززت شعورهم بالضآلة وحنّستهم (وعدتهم بلا أمل يعني) بالخلاص من عقاب لا ينتهي. يعني إيه الكلام ده؟ فيلوكتيتس كان راجل كبير فعلاً ومعظم شهرته بعد موت هرقل كان قايمة على علاقته بهرقل وفي كل مكان بيروحه كان بيُشار إليه كـ”صديق هرقل” أو “حامل قوس وسهام هرقل”. المجد الكاذب ده أدى لترسيخ أحلام البطولة في نفس فيلوكتيتس وفيمن حوله، مش علشان هو بطبيعته بطل، لأ علشان شايل قوس وسهام هرقل. هيرا كانت ممكن جدًا تعاقب فيلوكتيتس بعد ما أشعل النار في محرقة هرقل أو تاخد منه القوس والسهام اللي فرحان بيهم دول، بس هي بذكائها أمهلته الوقت الكافي أنه يعيش حلم البطولة الكاذب ويطلع بنفسه سابع سما علشان لما تاخده منه يقع على جدور رقبته ويدرك ضآلته المتناهية. أما بالنسبة للهولدرا كان ممكن جدًا الرب يحولها لوحش بشع بيسرح في الغابات ويروّع الصيادين وخلاص.. لكن لأ، الرب أهداها جمال ظاهري بيخلي أي حد يشوفها يتهبل عليها، وبالتالي يديها أمل في الحب والخلاص، ولكن لما يعرفوا طبيعتها بياخدوا ديلهم في سنانهم ويجروا. كل مرة حد بيشوف الهولدرا ويُعجب بيها بيبقى عندها أمل في الحب والتقبل وبعدين لما الشخص ده ينفر منها لما يشوف حقيقتها الأمل بيتمزق وقلبها بيتقطع مليون حتة وبتشعر بضآلتها وقبحها من جديد في عقاب أشبه بعقاب بروميثيوس Prometheus اللي النسر كان بياكل كبده كل يوم ويطلع له كبد جديد علشان يجي النسر وياكله تاني يوم.. هكذا، للأبد.

على الجزيرة، فيلوكتيتس فضل عايش كذكرى لبطولة غير حقيقية، تمامًا زي القوس والسهام اللي كان متمسك بيهم.. وفي الغابة، الهولدرا فضلت عايشة كصورة لامرأة غير مكتملة، تمامًا زي جمالها الكاذب.

ممكن البعض يشوف أن مفيش داعي للدراما وأن الأسطورتين نهايتهم سعيدة.. فيلوكتيتس جرحه بيتعالج وبيرجع للحرب تاني والناس بتقدره وبتعرف قيمته، والهولدرا ربنا بيكرمها بواحد يسترها ويتجوزها فبتتحول لست طبيعية وبتعيش في تبات ونبات وبتجيب ولاد وبنات. نهايات سعيدة دي ولا مش نهايات سعيدة؟

الحقيقة أن ده أبعد ما يكون عن السعادة…

الإغريق بيقرروا يرجعوا يجيبوا فيلوكتيتس من على الجزيرة بعد ما سابوه مرمي هناك عشر سنين مش علشان سواد عيونه ولا علشان أدركوا خطاءهم، بيرجعوا لفيلوكتيتس علشان النبوءة اللي قالت مش هيعرفوا يكسبوا الحرب إلا بالقوس والسهام اللي مع فيلوكتيتس.. هو مجرد حِمل إضافي جاي مع قوس وسهام هرقل، وده بيأكد إحساسه بالضآلة والبطولة الكاذبة اللي الآلهة عاقبته بيه. نفس الكلام مع الهولدرا، الهولدرا هيتقبلها الآخرين مقابل الموافقة على قيود الزواج والدين وساعتها بس هتتحول لامرأة مكتملة “طبيعية” “طاهرة” تستحق الحب والتقبل، وكأن طبيعتها، اللي هي ملهاش ذنب فيها، هي الشر والقبح بعينهما.

في عالم أفضل قد يُقدّر الناس فيلوكتيتس العجوز لطيبته ووفائه وتمسكه بالحياة، ساعتها بس هيحكي لهم عن أمجاده مع هرقل وعن ثقة البطل فيه وعن رجله اللي مابقتش شايلاه..

في عالم أفضل قد تجد الهولدرا من يقترب منها ويحبها بديلها وظهرها المجوف دون شروط، ساعتها بس هتحكي له عن ظلم الرب لها وحملها لخطيئة أمها وعن الحب الوفير في قلبها..

في عالم أفضل قد لا نخفي أنفسنا خوفًا من العقاب أو رغبةً في التقبل.


اترك رد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s