النهاردة هنتكلم عن أسطورة الإله الإغريقي سيء السمعة بان Pan، إله الغابات والمراعي، وقصته الشهيرة مع الحورية سيرنكس Syrinx..

قبل ما نبدأ قصة بان وسيرنكس محتاجين نعرف شوية تفاصيل عن الإله بان وصفاته اللي جعلته من أكتر الآلهة المثيرين للجدل. قصة ولادة بان أختلف عليها الرواة، شوية يقولوا ده ابن زيوس Zeus وشوية يقولوا ده ابن هيرميز Hermes، المهم يعني اللي اتفقوا عليه أن أمه، الحورية اللي زيوس\هيرميز نام معاها، أول ما أنجبته وشافت أن طفلها له قرون ورجلين معزة صرخت ورمت الطفل على الأرض وجريت. آلهة الأوليمب أشفقوا على الطفل ده وأخدوه يربوه هم ونصّبوه إله على الغابات والمراعي. بان كانت من أشهر صفاته حبه للرقص والموسيقى والعربدة وملاحقة الحوريات (هو كان بيلاحق الحوريات والربّات والرعاة وكلاب السكك كمان بس ما علينا).. ده غير أن كان معروف عنه استخدام صرخته المرعبة لإثارة الفزع في قلوب أعدائه، وعلشان كده كلمة “فزع” بالإنجليزية panic مشتقة من اسمه.
نبدأ قصتنا..
في يوم من الأيام وبان ماشي في الغابة لمح حورية جميلة جدًا وهي بتستحمى وتغني (حورية بقى!). الحورية دي كان اسمها سيرنكس، وكعادة بان قرر يلاحقها. سيرنكس أول ما شافت بان اتفزعت وقعدت تجري، ولازم هنا نعرف أن هروب سيرنكس من بان مكانش سببه بس شكل بان المثير للخوف ولكن إدراك سيرنكس لنية بان المهببة كمان. سيرنكس كانت من أتباع الربّة أرتميس Artemis، ربّة الصيد والبرية، وكان من المعروف عن أتباعها التزامهم بالحفاظ على عذريتهم. المهم سيرنكس فضلت تجري تجري تجري وبان يجري وراها بلا كلل ولا ملل لحد ما سيرنكس وصلت لضفاف نهر لادون Ladon واستنجدت بإله النهر وأخواتها من الحوريات. لادون والحوريات شافوا الموقف وقرروا يتصرفوا بسرعة وتفتق ذهنهم – ما شاء الله عليهم – عن فكرة نيرة جدًا وهي أنهم حولوا سيرنكس لمجموعة من أعواد القصب المجوفة اللي بتنمو على ضفاف الأنهار دي!
أول ما بان وصل لضفة النهر قعد يبص يمين وشمال باحثًا عن سيرنكس اللي لسه كانت بتجري قدام عينيه دلوقتي بس مالقهاش. بان أطلق تنهيدة حزن وخيبة أمل فنفسه، مر من خلال أعواد القصب المجوفة وعمل صوت جميل ورقيق أشبه بصوت سيرنكس اللي بان سمعه من قبلها بشوية والحورية بتستحمى. بان بص بتأثر لأعواد القصب وسألها “سيرنكس؟” فالرياح مرت خلال الأعواد وعملت نفس الصوت الملائكي تاني. بان قرر يقطع أعواد القصب دي، وبعد ما قطعهم ربطهم ببعضهم وحولهم لآلة موسيقية المعروفة حاليًا بالبان فلوت pan flute أو الـ panpipes واللي أحيانًا بيطلق عليها برضه اسم سيرنكس. بان أحتفظ بآلة السيرنكس دي وبقى شايلها معاه طول الوقت بينفخ فيها بحزن، وأصبحت الموسيقى العذبة الساحرة اللي بتصدر منها من أهم صفات الإله بان وأكبر دليل على وجوده في المكان.
طيب، ملاحقة بان لسيرنكس محاولة اغتصاب صريحة مفيش كلام، وده يخلي تحول سيرنكس من حورية جميلة مليانة بالحياة لأعواد قصب جامدة للأبد علشان تهرب من بان أكبر مثال على القهر اللي بتتعرض له الضحية في المواقف اللي زي دي سواء فعل الاغتصاب تم أم لم يتم. وممكن كمان نقرأ القصة بشكل رمزي سوداوي شوية ونقول إن سيرنكس ماقدرتش تهرب من بان ولا حاجة وإنه اغتصبها فعلاً وأصبحت ملكية دائمة له بينفخ “نَفَسه” في “أعوادها المجوفة” وقت ما هو عايز.
بس أنا لا أميل للقراءة دي الصراحة وشايفة أن للأسطورة أبعاد تانية هنحاول نكتشفها مع بعض دلوقتي.
أولاً، ليه مانقولش إن سيرنكس قدرت تهرب فعلاً وفطت نطت في مياه النهر وإن ربط بان بينها وبين أعواد القصب هي محاولة منه للحفاظ على ذكراها؟ بان أوهم نفسه أنه أتملك سيرنكس فعلاً بامتلاكه لأعواد القصب وأتعلق بالأعواد زي تعلقنا بصورة أو بذكرى ما.. مجرد محاولة بائسة لامتلاك واقع\لحظة لم تعد موجودة ولن تعود أبدًا.
ثانيًا، زي ما قولنا من شوية لو تفتكروا، بان أمه الحورية هجرته أول ما أتولد بسبب منظره المخيف.. قررت في ثانية أن ابنها لا يستحق حبها وحنانها كأي طفل بسبب شكله، ومن هنا ممكن نفهم شوية سبب إصرار بان على ملاحقة الحوريات ومحاولة إقامة علاقة معاهم، كأنه لسه طفل صغير بيدور على الحب اللي أمه رفضت تديهوله وهو رضيع. رغبته دي بتطلع بشكل مشوه طبعًا بس هي في صميمها رغبة طفولية لا تهدأ. لما سيرنكس اتحولت من حورية لأعواد قصب لآلة موسيقية قد تكون علمت بان درس في الطبيعة المتحورة للحب والتعلق وأن ما ينقصنا من حب قد نجده في صور مختلفة عن الصورة المتخيلة في دماغنا ومتبتين فيها بإيدينا ورجلينا. بان مالاقاش ولا هيلاقي الحورية اللي هتديله الحب غير المشروط اللي كانت أمه المفروض تديهوله، بس في النهاية أتعلق بآلة موسيقية صغيرة أصبحت هي حبه وهوسه وطريقته للتعبير عن نفسه كمان. وألا يُقال إن الحب يظهر أجمل ما فينا؟ من بعد حادثة سيرنكس، بان صاحب الصوت المفزع أصبح السبب في أعذب نغمات بيسمعها الرعاة في الغابة.
ثالثًا، ودي القراءة الأقرب والأحب إلى قلبي، بعيدًا الاغتصاب والتملك وصراع الجنسين والكلام ده كله، أسطورة بان وسيرنكس من أجمل ما مر عليا في التعبير عن حالة الإبداع. الفنان – أو المبدع بشكل عام – هو بان اللي بيشوف مُلهمته Muse، اللي مش شرط تكون في صورة إنسان\ة لكن ممكن تكون فكرة ما، وبينبهر بجمالها ويقرر يطاردها علشان يتملكها. الملهمة في السيناريو ده هي سيرنكس طبعًا اللي بتأبى فكرة التملك وبتفضل تهرب وتفلفص لحد ما بتلاقي نفسها في مواجهة مُطاردها.. وهنا الملهمة بتتحول لصورة تانية خالصة، ولنا هنا وقفة..
تحول الملهمة\الفكرة لصورة أخرى جامدة مختلفة تمامًا عن صورتها المفعمة بالحياة اللي شافها بيها المبدع أول مرة هو انعكاس لطبيعة العملية الإبداعية: في مرحلة الإلهام، الفنان بتجيله فكرة في مُخيلته، بيشوف فكرته\ملهمته دي كأجمل شيء رأته عينيه وفي محاولاته المحمومة لمطاردة وتملك الفكرة بيكتشف أنها لازم تتحور لصورة أخرى علشان تخرج من نطاق المُخيلة إلى نطاق العمل الفني الملموس. النتاج بيبقى شيء جميل على الرغم من إنه واحد على مليون من صورة الفكرة في مُخيلة المبدع، بس ده ده بيصيب المبدع بالإحباط، واللي بعتبرها مرحلة طبيعية لا مفر منها من مراحل العملية الإبداعية. الفكرة أن المبدع مهما بلغ من مهارة عمره ما هيقدر ينقل الصورة الأولى للإلهام في خياله، الصورة اللي سحرته وأدت بيه لخلق العمل الفني، الصورة دي بتاعته هو بس.. وده شيء جميل وحزين في نفس الوقت لأن المُبدع أتحكم عليه يهيم في الأرض متمسك بصورة في خياله محدش شايفها غيره زي ما بان أتحكم عليه يجوب الغابات وهو متمسك بحوريته الساحرة سيرنكس اللي كل من حوله هيشوفوها مجرد آلة موسيقية جميلة.
في الفيلم الإيطالي الرائع La grande bellezza (2013)، الكاتب والمخرج الإيطالي باولو سورينتينو Paolo Sorrentino بيصور لنا فكرة شبيهة بأسطورتنا النهاردة من خلال بطل الفيلم، چيب، الكاتب والناقد المشهور في الأوساط الفنية. اللي يهمني في قصة چيب هو إنه طول حياته ما أنتجش غير كتاب واحد وكان ناجح جدًا ورفض بعدها يكتب أي حاجة تانية على الرغم من إلحاح الناس اللي حواليه عليه، هنكتشف بعد كده أن سبب كتابته للكتاب ده كانت علاقة حب غير مكتملة مع فتاة وهو شاب صغير. في ذاكرته، لحظة “تكشُّف” محبوبته ليه (وبالمناسبة كانت على البحر برضه زي الأسطورة) هي اللحظة اللي بنى عليها حياته كلها والذكرى اللي محتفظ بيها كأغلى ممتلكاته. إلهام اللحظة دي أتحول لكتاب ناجح، بس حب چيب للبنت دي وللحظة دي تحديدًا هي الحاجة اللي مقدرش ينقلها لأي كتاب ولا يشاركها مع أي حد، بقت هي “الجمال العظيم” اللي بيدل عليه عنوان الفيلم. چيب فضل عايش على ذكرى لحظة “الجمال العظيم” زي ما بان فضل عايش على ذكرى سيرنكس.

في قصة چيب وأسطورة بان يمكن لو كانوا قدروا فعلاً يتملكوا المُلهمة بصورتها الأولى كانت هتفقد بريقها وتتحول لصورة عادية مع الوقت (چيب كان هيكمل حياته مع البنت ويعرفها على حقيقتها ويشوفها وهي بتفقد سحرها وبان كان هيزهق من سيرنكس ويشوف حورية تانية يجري وراها). يمكن أتحكم علينا مانقدرش نمتلك لحظات الجمال العظيم دي إلا في خيالنا، كذكرى لنا وحدنا لا تُشفى ولا تُشارك.. أن ندرك أن عظمتها تكمن في استحالة تحققها.
هسيبكم مع المقطوعة الموسيقية الجميلة دي بعنوان “بان وسيرنكس” Pan og Syrinx من تأليف الموسيقار الدنماركي كارل نيلسن Carl Nielsen واللي بتصور بوضوح مراحل رؤية بان لسيرنكس ثم وقوعه في حبها ثم المطاردة ثم إدراك بان لتحول سيرنكس وتحسره عليها وأخيرًا تمسكه المثير للشجن بيها.
دمتم مع حورياتكم.
اشكرك/ اشكرك ( اشكرك التانية بكسرة عند حرف ال ر ) علي البلوج ده
إعجابLiked by 1 person
العفو 🙂
إعجابإعجاب