النهاردة هنتكلم عن قصة من العهد القديم، وتحديدًا من “سفر القضاة”.. هنتكلم عن البطل شمشون ومحبوبته دليلة..

نبدأ القصة من عند منوح Manoah عين من أعيان إحدى القبائل اليهودية اللي زوجته كانت عاقر مابتخلفش. الزوجين فضلوا يدعوا ربنا يرزقهم بالذرية لحد ما في يوم هبط عليهم ملاك من السماء ووعدهم بابن هيكون فخر ليهم وهينصرهم على أعدائهم بشرط أن الابن ده يُنذر لله (يعني لا يشرب الخمر ولا يحلق شعره ولا يأكل أنواع معينة من الطعام) والملاك اشترط على الأم كمان تعمل نفس الحاجة طوال فترة الحمل. وبالفعل، وبعد تسعة شهور، زوجة منوح خلفت شمشون Samson..
طبعًا شمشون كبر وشهرته انتشرت في المنطقة كلها بسبب قوته العظيمة، وفي يوم طلب من والديه أنه يسافر لأرض الأعداء ووافقوا في النهاية بعد إلحاحه. في الطريق شمشون قابل أسد وقتله بإيديه عادي خالص كأنه بيقتل خنفسة، ولما وصل لأرض الأعداء أعجب ببنت من بناتهم وقرر يتجوزها خبط لزق كده. المهم يوم الفرح شمشون قال للضيوف فزورة وقال لهم لو ما عرفتوش تحلوها هتجيبوا لي ثلاثين من قطع القماش الفاخر ولو عرفتوا تحلوها أنا اللي هجيب لكم ثلاثين من قطع القماش الفاخر. المهم الضيوف قعدوا يفكروا في الفزورة لحد ما غُلب حمارهم وراحوا للعروسة من ورا شمشون وقالوا لها تحاول تعرف لهم الحل من شمشون علشان مايخسروش. العروسة وافقت وفعلاً أخدت عريسها العبيط على جنب وقعدت تتدلع عليه لحد ما قال لها الحل. أول ما هي عرفت جريت وقالت الحل للضيوف اللي بدورهم قالوه لشمشون. شمشون طبعًا أتغاظ بس قال لهم خلاص أنا هروح أجيب لكم الهدية اللي اتفقنا عليها، وهنا القصة بتاخد منحى عبثي شوية..
شمشون بيروح لقرية قريبة وبيقتل ثلاثين شخصًا علشان ياخد ملابسهم الفاخرة ويهديها للضيوف كما وعد. وبسبب أن شمشون أتأخر عليهم شوية، لما رجع للقرية اللي كان زفافه مقام فيها، شمشون لقى أن أهل العروسة زوجوها لواحد من الضيوف – علشان افتكروا شمشون مش هيرجع والبنت هيضيع عليها البوفيه وأجرة فستان الفرح تقريبًا فقالوا خير البر عاجله – وعرضوا عليه أختها بدل! طبعًا شمشون أتجنن وقال لهم “أنتم فاكرني كروديا ولا إيه؟ لأااا ده أنا شمشون!” وراح مولع في القرية وفي محصولهم. فأهل القرية لما شافوا اللي عمله شمشون ماروحش ينتقموا منه.. تؤ تؤ، انتقموا من العروسة وأهلها وحرقوهم وحرقوا بيوتهم. فراح شمشون أتضايق – يا حول الله يا رب! – والموضوع انتهى بأنه قتل ألف شخص في طلعة واحدة.
بتمر الأيام وشمشون بيقابل بنت جميلة اسمها دليلة Delilah، وزي عروسته الأولى دليلة برضه كانت من الأعداء، بس شمشون وقع في غرامها وسلم لها قلبه وروحه. أعداء شمشون عرفوا بعلاقته بدليلة وطلبوا منها تعرف سر قوة شمشون علشان يقدروا يتغلبوا عليه. دليلة في الأول رفضت بس فيه روايات بتقول إنهم هددوها بأهلها وروايات تانية إنهم عرضوا عليها الأموال، المهم يعني أنها في النهاية وافقت تخون شمشون. الجزء ده بقى من القصة مش معروف للجميع بس دليلة أول مرة لما طلبت من شمشون يقول لها سر قوته ضحك عليها وقال لها لو اتربطت بحبال من الصوف ببقى ضعيف ومش هعرف أعمل حاجة، ولما صحي من النوم لقى دليلة رابطاه بحبال من الصوف! ولما فكها بكل سهولة أمام دليلة المذهولة قالت له بتلعثم “هيهيهي كنت بهزر معاك يا شمشم”.. الموضوع ده أتكرر ثلاث مرات، كل ليلة دليلة تطلب من شمشون معرفة سر قوته وهو يكدب عليها ويصحى يلاقيها عاملة الحاجة دي فيه. في المرة الرابعة دليلة ألحت عليه وقالت له لو بتحبني فعلاً لازم تثق فيا وتقول لي على سرك بجد، ووضعت رأس شمشون على رجلها وقعدت تلعب له في شعره الطويل لحد ما سكن وأعترف لها بالحقيقة وقال لها إن سر قوته شعره اللي ماقصهوش من ساعة ما أتولد. أول ما شمشون راح في النوم، دليلة جابت المقص ودبته في دماغه (قصت شعره مش موتته)، وراحت ندهت أعداءه علشان يمسكوه أول ما يصحى.
شمشون صحي من النوم لقى نفسه مربوط ومتجرجر في الشارع زي الماشية وجيه رجل انتزع عينيه، وفضلوا يجرجروه وهو مش شايف حاجة ومش قادر يعمل حاجة لحد ما أتربط في الساقية اللي بيلف فيها الحمار دي وأتساب فيها شهور كعبرة لمن يعتبر.
قصة شمشون مشهورة بخيانة دليلة له، وكل المعالجات الأدبية والفنية اللاحقة ركزت على خيانة دليلة واستخدامها للحب للانتصار على شمشون الذي لا يُقهر وإن نقطة ضعفه هي حبه لدليلة مش شعره زي ما قال، بس الحقيقة بالنظر للقصة كاملة صعب جدًا الواحد يتصور أن دليلة هي السبب الوحيد في هزيمة شمشون.
شمشون من أول القصة وهو ثور هايج في أرض الله، يقتل ويدمر ويحرق، وزي ما القصة وضحت لنا هو كمان مكانش على قدر عال من الذكاء بدليل أنه خُدع أكتر من مرة. والسؤال هنا: هل شمشون كان بيُخدع علشان عقله فسافيسي على قده ولأ علشان هو كان عايز يُخدع فيلاقي سبب لثورته واستخدامه للقوة الغاشمة؟ يعني مثلاً فزورة الفرح دي كان إيه الهدف منها غير افتعال الفرقة في يوم لطيف مفترج! وحلقة الانتقام المفرغة اللي دخل فيها بعد الحادثة دي برضه بتدل على ميله للتحدي والهمجية.
شمشون من ساعة ما أتولد وأهله والناس بتقول له إنه منذور لله علشان يكون قوة ضد الأعداء، مجرد أداة قتل، وهو فعلاً كان بيتصرف على هذا الأساس وزيادة، بس هل يا ترى كان راضي عن الدور ده؟ ولو كان راضي فعلاً ليه أفصح لدليلة عن سره على الرغم من وضوح نيتها المهببة لخيانته؟ ما أعتقدش أن الحب عمى شمشون لهذه الدرجة وشايفة أن اعترافه ليها هي محاولة لاواعية للخلاص من شقائه، طريقته للثورة على القدر اللي أتفرض عليه منذ ولادته. حد ممكن يقول لي طيب ما هو كان ممكن يقص شعره بنفسه ويبعد ويروح يشتغل في فرن أم أميرة وخلاص، ممكن جدًا كان يعمل ده، بس شمشون في النهاية إنسان واحنا كبني آدم بنجد صعوبة في تحدي الإرادة الإلهية بشكل واضح (خصوصًا لما تكون الإرادة دي معلنة كحالة شمشون) وبنفضّل الاعتماد على عوامل خارجية لتغيير المسار لرفع الإثم عن أنفسنا. اعتقادي أن شمشون اختار أن تغيير المسار ده يتم على يد محبوبته دليلة بعد ما تأكد من نيتها لخيانته.
بعد ما أعداء شمشون انتزعوا عينيه وربطوه في ساقية لشهور، فكوه وأخدوه على المعبد بتاعهم، اللي كان كلهم متجمعين فيه، وربطوه بين عمودين ضخمين استعدادًا لتقديمه كتضحية. شمشون، اللي فقد قوته ونظره وكرامته، قعد يدعي ربنا ويتوسل له إنه يرجع له قوته مرة أخيرة بس، وفعلاً ربنا استجاب له، فراح شمشون محرك العواميد الضخمة المربوط فيها ووقع المعبد على دماغه ودماغ أعدائه. شمشون اختار أنه يموت مع أعدائه بالشكل البطولي ده، أولاً لأن مفيش أمل في أنه يعيش كبطل أعمى (هيواجهه مصير مأساوي زي مصير البطل الإغريقي بيليروفون Bellerophon)، ثانيًا لأن دي كانت رغبته من البداية، من لحظة استسلامه لدليلة واعترافه بسر قوته.
في رأيي المتواضع، على الرغم من خيانة دليلة لشمشون إلا أن رغبته في الاعتراف، مع إدراكه لعواقب الاعتراف ده، هو السبب في تخليد علاقة شمشون بدليلة لأنها مش بس بتعكس رغبته في الحب والتقبل وإنما بتدل على توقه للتخلص من قوته الغاشمة، وكأن قص الشعر هو رمز للتخلص من الهمجية والعودة لكونه طفل مسالم، شخص عادي قابل للحب بدون أغراض ومؤامرات ومأساويات.
فيه أغنية لطيفة جدًا للمغنية ريجينا سبيكتور Regina Spektor اسمها “شمشون” Samson، سبيكتور بتتناول فيها الأسطورة بشكل يشبه تفسيرنا شوية وبتتخيل نهاية مغايرة للقصة. الأغنية على لسان دليلة اللي بتحكي الأحداث من وجهة نظرها وبتقول إن هي حبت شمشون الأول قبل ما هو يقع في غرامها وإنها قصت شعره وهو نايم وبعدين قام من النوم كرجل عادي، مش بطل ولا حاجة، أكل ورجع للسرير في حضنها تاني، ومن ساعتها محدش سمع عنهم حاجة ولا الأساطير والكتب المقدسة جابت سيرتهم. الأغنية بتتخيل أن اللي حصل بين دليلة وشمشون كان على إتفاق بينهم وأن دليلة خلصت شمشون من لعنة العنف والبطولة والشهرة، كأن سقوطهما من عالم الأبطال هو الثمن الذي دفعاه بسعادة للحصول على الحب والسكينة.
شمشون في القصة للأسف ماحصلش على السكينة والهدوء اللي كان بيحلم بيهم، بس يمكن تكون الليلة اللي نام فيها في حضن دليلة بعد ما أعترف لها بسره هي اللحظة اللي استمتع فيها بالسكون والاستسلام الطفولي بعد ما أنزل حمله الثقيل وعرف إن بطولته وحياته كلها اقتربا من النهاية.

كفكرة نابعة من التعاطف الخام بحس إن شمشون كان بيعمل كل دا والهيصة والحفلة دي كنوع من التعبير عن ” الممنوع مرغوب ” كل الغضب الكامن جواه دا كل الثورة و التمرد يلي بيطلعو في أقل و ابسط الأشياء زي قتله للغلابة و حرقه و هدمه و و و كلو طالع من فكرة انو مكتوم زيو زي اي مراهق اهله بيمنعوه من كل الحاجات يلي هو شايفها ممتعة و مش عارف اي تفسير منطقي ليه أهله بيمنعوه من الحاجات دي وبالتالي بيتمرد في الطالعة والنازلة بيعمل الخطأ حتى لو هو شايفو صح ، شمشون من ما اتولد و هو شايف انه انفرضت عليه قوانين و احكام عمره ما طلب انها تكون موجودة ولا صدق عليها بنفسه بس انفرض عليه انه يتبعها وكبر وكبرت فيه رغبته على التمرد وكل الناتج منها و بدأ يتمنى إرادته الحرة قراراته الخاصة و أول شي طبق فيه الممنوع مرغوب هو زواجه من كل بنت من قرية الأعداء وكأنه بكدا بيثبت إنو ها حتى لو ممنوع اني احبها حبيتها يلي بعدو ! بس شمشون غفل على انه فعلا بعد الحصول على الرغبة الممنوعة انها ما كانت ممنوعة من غير سبب وبيترتب عليها عواقب وخيمة المرة الأولى أدت لقتل شمشون لكل يلي حوالينه وعيشه هو بعد ثورة غضب ما تقبل فيها العواقب بس المرة الثانية شمشون تعامل بهدوء غريب مع الموقف حتى و هو عارف احتمالية اغتياله يمكن لأنه المرة دي شمشون عرف انه الممنوع فعلا له عواقبه بعد تجربته الأولى بس المرة دي اختار انو يتقبلها يمكن عشان الحب ؟ يمكن عشان يخلص نفسه ؟ يمكن عشان نضج وما عاد مراهق كل همه التمرد وعرف معنى أعمق لحريته ؟ الله أعلم بس دي هي كانت أول إرادة لشمشون خالصة من قلبه وقرر انو يتقبل حتى العواقب وخبطة الواقع واختيار عدم الهرب منها و التماشي معاها بدون مقاومة وهي الحاجة يلي بتخليك فعلا كانسان أعمى مش عارف مصيرك وتتخبط في المجهول مكتف مش عارف تتحرك ولا تعمل حاجة وبتاخدك فعلة يديك ( أهل القرية ) لمصيرك المجهول دا وبما إنه لقي إن المصير دا عبارة موت كدا أم كدا قرر انه ينهي حياته بنفسه كتعبير منه على آخر إرادة حرة يمتلكها و إنه لآخر لحظة بيحاول يكون إنسان حر حتى لو كلفه الأمر انه يقتل نفسه قبل ما يقتلوه هم زي ما كيف اسير الحرب يقرر يقتل نفسه قبل ما يقتلوه الأعداء بطريقة مؤلمة مجهولة غير معروفة شمشون هنا كان أسير رغبته وقرر إنه يقتل نفسه قبل ما يشوف النتايج الحقيقية لقراراته يلي حيكون وقعها مؤلم عليه وتخليه يستوعب ان رغبة الانسان في حريته فعلا شبه مستحيلة وإن كل أفعاله يلي كان بيعملها دي ما كان منها أي فايدة ومهما قرر فمصيره الهلاك شمشون خلاها تقص الخصلة وكأنها بتقص شريط افتتاحية حياته انه انولد من جديد انه تجرد من كل المفروض عليه و اللا مفروض انو يعملو هو ما اختار انو يجي للحياة بإرادته بس اختار انه يموت بإرادته و أول حاجة تخيلتها إن في النهاية مشهد هدم شمشون للمعبد بمن فيه كان ثورة غضب هادئة مش عارفة السبب بس بتخيلو كدا انه بكل هدوء غاضب شال المعبد وكسره فوق دماغهم :’)
و والله صعب علي الولد شمشون دا
وشكرا مرة تانية لأنك بتخلينا نكتشف جوانب ثانية مننا و و بتفجري كل الآراء والشخصيات وتقييمات الخير والشر يلي جوانا ، انتي بتساعدينا اننا نبقى أشخاص أفضل من غير ما نحس فشكرا مرة ثانية و فخورة فيك كقارئة لكتاباتك اليوم بكرا وكل يوم ، كوني بخير عشان نحن نكون بخير D: 💖
إعجابLiked by 1 person
بالظبط كده! أنتي لخصتي كل شيء.. شكرًا ليكي أنتي على اهتمامك وذوقك 🙂
إعجابإعجاب
قراءتك للقصة فتحت لنا جانب تاني للتعاطف مع شمشون.. مش عارفة أشكرك إزاي على إضافاتك الثرية دي
إعجابإعجاب