
أسطورة النهاردة عن الأميرة ماربيسا والبطل ايداس..
وفقًا للأساطير الإغريقية، وفي منطقة اسمها أيتوليا Aetolia في اليونان، كان فيه ملك اسمه ايفنيوس Evenus كان عنده بنت جميلة جدًا اسمها ماربيسا Marpessa وكان رافض تمامًا أنها تتجوز من شدة تعلقه بيها. وبسبب رغبته في بقاء ماربيسا معه للأبد، كان بيرفض كل الأمراء والأبطال اللي بيطلبوا ايدها للزواج ويقول لهم أن بنته هتفضل عذراء. ولما الأسئلة كترت ومابقاش عارف يوفر أسباب مقنعة للرفض، قرر أنه يعمل شرط تعجيزي لأي شخص عايز يتقدم لماربيسا وهو أن الشخص ده لازم يدخل في سباق بالعربات – اللي بتجرها الخيول – مع ايفنيوس.. اللي هيقدر يسبق ايفنيوس هيفوز بماربيسا كزوجة، واللي مش هيقدر يسبقه هيتعدم!
وبالفعل أقبل الكثير على السباق وهم فاكرين أنهم عادي ممكن يسبقوا رجل عجوز ويفوزوا ببنته الجميلة، ولكن للأسف ايفنيوس كان كل مرة هو اللي بيسبق وبيعدم الخاسرين. ايفنيوس مكانش بطل ولا محارب ولا أي حاجة ولكن تفوقه كان سببه العربة بتاعته لأن الخيول اللي بتجرها كانت هدية من إله الحرب آريز Ares وبالتالي مفيش أمل لأي حد يكسب السباق.
ده طبعًا قبل ما يجي البطل ايداس Idas..
ايداس كان عارف اللي فيها وعارف موضوع الخيول الإلهية دي، وعلشان كده قبل ما يروح يطلب ماربيسا للزواج، طلب من إله البحر بوسيدون Poseidon – يُقال إنه أبوه – عربة بأجنحة. بوسيدون رفض في الأول لكن ايداس توسل إليه لحد ما بوسيدون وافق علشان يخلص من الزن بتاعه.
ايداس أخد العربة المجنحة وراح لايفنيوس وطلب يدخل السباق معاه للفوز بماربيسا. ايداس بالفعل قدر يسبق ايفنيوس ولما طالب بماربيسا، ايفنيوس أصر على رفضه وقال له “على جثتي أسيبها لك!” ايداس قال له “لأ ده أنت راجل عيّل بقى وأنا هاخدها غصب عنك” وفعلاً راح خطف ماربيسا اللي كانت واقفة تتفرج على اللي بيحصل وحطها في العربة المجنحة وجري. ايفنيوس طبعًا ماسكتش.. هوب.. نط في العربة بتاعته وقعد يطارد ايداس لمسافة طويلة جدًا لحد ما فقد أثره. ايفنيوس مكانش مصدق أنه خسر بنته، وفي نوبة من الغضب قتل الخيول بتاعته ورمى نفسه في البحر ومات.
ايداس أخد ماربيسا لمكان بعيد علشان يستفرد بالجائزة بتاعته بقى، ولكن اللي مكانش يعرفه هو أن ساعة المطاردة الإله أبولو Apollo كان بيتفرج عليهم ولما شاف ماربيسا أنبهر بجمالها وقرر ياخدها لنفسه. أبولو فضل ماشي وراهم لحد ما عرف مكانهم وحاول يخطف ماربيسا في غفلة من ايداس، لكن ايداس لحقه ورفض يتخلى عن ماربيسا وقعد يتخانق مع أبولو خناقة وصلت لرب السما – حرفيًا – لدرجة أن زيوس Zeus سمعهم وقرر أنه يتدخل علشان يوقف الهبل اللي بيحصل ده.
زيوس كان صوت العقل بقى وهو الوحيد اللي نَصَف ماربيسا وعاملها كإنسانة لها صوت بدل ما كان كله بيعاملها كمفرش ترابيزة. زيوس أمر أبولو وايداس بالتوقف عن العراك وأعطى لماربيسا حق الاختيار بين الاتنين. ماربيسا قعدت تفكر وبعدين اختارت ايداس. ولما زيوس سألها ليه تخلت عن حب إله زي أبولو (أبولو كان جماله يتعدى جمال البشر بمراحل) علشان حب بشري زي ايداس (ايداس مكانش وسيم خالص وكان همجي ومعروف عنه العنف.. ولو تفتكروا هو اللي قتل كاستور وحاول يقتل أخوه بولوكس)، ماربيسا قالت إن ايداس هيفضل معاها حتى لما تكبر وتعجّز وجلدها يكرمش لكن أبولو غالبًا هيرميها أول ما يحس أنها ابتدت تفقد جمالها. زيوس قال لها خلاص أنتي حرة وأمر أبولو بعدم التعرض لها، وفعلاً أتجوزت ايداس وفضلت معاه لحد ما كبروا.
قد تبدو الأسطورة للوهلة الأولى أسطورة سعيدة من نوعية الحب الذي لا يُقهر وعاشوا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات بس الحقيقة الموضوع مش مُقنع خالص وغير مريح بالمرة.
أعتقد أن أهم جزء في القصة هو تعلق الأب المَرضي ببنته لأن ده اللي بيترتب عليه كل حاجة بعد كده. حُب ايفنيوس لماربيسا كان حب تملك مش مجرد حب أبوي لأن في الطبيعي أي أب عايز يشوف بنته سعيدة سواء قررت تتجوز أو ماتتجوزش أو حتى تمشي على ايديها، لكن ايفنيوس كان عايز يمتلك ماربيسا ويخليها طفلته للأبد مع أن ده ضد الطبيعة، ولما حس أنه فقدها – أو فقد الصورة اللي كان حاططها في ذهنه لماربيسا – قتل نفسه. نيجي بقى للأخ ايداس اللي مايختلفش كتير عن أبوها، ايداس مكانش يعرف ماربيسا ولا عمره شافها قبل السباق ولكن بعد ما “فاز” بيها كان بيعاملها كأنها من ممتلكاته، كأنها جائزة كسبها في مسابقة محدش له حق ياخدها منه.. وفيه روايات للقصة كمان بتقول أنه اغتصبها على طول بعد ما خطفها وجري بيها كنوع من إثبات الملكية. أما أبولو فماشفش فيها غير امرأة جميلة وكان عايز يتملكها وقتيًا لإشباع رغباته وماعتقدش أن كان فيه وقت أو مساحة للحب خالص سواء من طرف ايداس أو أبولو. يعني واحد كان عايز يتملكها كطفلة والتاني كجائزة والتالت كجسد دون أي اعتبار للبنية الغلبانة ورغباتها.. وعلشان كده ماسمعناش صوتها إلا في أخر الأسطورة.
طيب نروح لماربيسا نفسها ونحاول نفهم إيه سبب اختيارها لايداس.
كنا اتكلمنا قبل كده عن ضحايا الصدمات والعلاقات المسيئة وإزاي أن ده بيأثر على حياتهم واختياراتهم حتى بعد انتهاء الصدمة أو بعد الخروج من العلاقة المسيئة خصوصًا لو الأذى حصل خلال السنوات التكوينية الأولى في العلاقة مع الأب أو الأم. تخيلوا كده طفل أتربى في بيت متشدد مع أهل قاسيين، طبيعي أنه لما يكبر وينفصل عن أهله في الأغلب بيحصل له حاجة من حاجتين كلاهما متطرف: 1) حدوث ردة فعل عنيفة فنلاقيه بيعمل أي حاجة عكس الطريقة والبيئة اللي أتربى فيها، أو 2) اتباع نفس النمط اللي أتربى عليه بكلاكيعه وبلاويه وكل حاجة وبيبقى جزء من تفكيره وشخصيته. طبعًا فيه أشخاص بتقدر تخرج من المزنقين دول بس ده بيحتاج لوقت وشغل كتير على النفس.
تخيير ماربيسا بين أبولو وايداس بعد انفصالها عن والدها ايفنيوس قد يُعتبر مثال على الخيارين اللاشعوريين اللي بتنزلق إليهما ضحية العلاقات المسيئة بعد الخروج من العلاقة: ردة الفعل (أبولو) أو إدمان النمط المسيء (ايداس).
اختيار أبولو يُعتبر ردة فعل لأنه النموذج المضاد المتطرف لعلاقة ماربيسا بأبوها: أبوها كان عايزها تفضل طفلة بريئة وأبولو، فك-بوي الآلهة، كان هيقضيها انحراف وعربدة معاها.. أبوها كان رابطها بعلاقة تملك أبدية وأبولو كان هيتسلى بيها شوية لحد ما يزهق منها ويسيبها.
أما اختيار ايداس فيُعتبر إدمان للنمط المسيء. يعني إيه الكلام ده؟ العلاقة المسيئة – خصوصًا لو استمرت لفترة طويلة وكانت الأولى في حياة الضحية كما في حالة ماربيسا – بتتحول لنمط قد تنجذب إليه الضحية في علاقاتها التالية بشكل غير واعي زي إنجذاب المدمن للمخدرات كده مع أنه بيكرهها وعارف أنها مؤذية. ايداس، على الرغم من اتخاذه صورة المخلص، هو امتداد لعلاقة ماربيسا بأبوها لأنه برضه شايفها من ممتلكاته.
صراع أبولو وايداس على الفوز بماربيسا هو رمز لصراع الدافعين اللاشعوريين اللي اتكلمنا عليهم دلوقتي داخل الضحية بعد مرورها بالصدمة أو خروجها من العلاقة المسيئة، وطبعًا اختيار ماربيسا لايداس يدل على استسلامها للدافع الثاني والانجذاب لنمط آخر محب للتملك ومسيء.
زيوس لما جيه يخير ماربيسا أداها خيارين بس مع إن فيه خيارات تانية متاحة، وبما أن زيوس هنا هو انعكاس لوجدان ماربيسا نفسها، فده بيعلمنا أن أحيانًا احنا اللي بنسجن نفسنا بنفسنا وأن الخيارات المحدودة اللي قدامنا بتبقى محدودة علشان عقلنا الباطن عايزها كده.. وعايزنا نفضل أسرى لعقدنا ومخاوفنا.
تحليلك رائع يا بهنسى
إعجابإعجاب
شكرًا 🙂
إعجابإعجاب