تخيل إن كل اللي بيحصل حواليك في العالم ما هو إلا انعكاس لمشاعرك ورغباتك ومخاوفك الشخصية وإن مفيش أي حاجة لها وجود فعلي…

لو تفتكروا فيه فيلم أمريكي أتعمل سنة 1998 اسمه Sphere وبيحكي عن فريق من العلماء اكتشفوا جسم كروي غريب الشكل في قاع المحيط <تحذير حرق> وبعد ما بيدخلوا الجسم الكروي بتحصل سلسة من الأحداث الغريبة والمرعبة وفي الأخر بيكتشفوا إن الأحداث دي ما هي إلا انعكاس لمخاوف كل واحد فيهم تجسدت في الواقع. الفيلم متوسط المستوى بس بيعكس فكرة فلسفية مهمة جدًا ألا وهي الأنوية أو السولبسية Solipsism.
كلمة solipsism مشتقة من اللاتينية وتعني “الذات المتفردة”. الفلسفة ببساطة بتقول إن الإنسان مهما طلع ونزل واتشقلب ونام على جنبه ووقف على دماغه ففكرته عن المعرفة هي فكرة ذاتية بحتة لأن عمره ما هيقدر يعرف أي حاجة غير نفسه أو من خلال نفسه. بمعنى آخر، نفس الإنسان – بما تتضمنه من أفكار ومشاعر.. إلخ – هي الحاجة الوحيدة الأكيدة بالنسبة له والباقي كله بلح.


الفكرة دي الفلاسفة الإغريق اتكلموا فيها لحد ما ديكارت Descartes جيه في القرن السابع عشر وقال لنا بكل وضوح إن الإنسان هيفضل حبيس ذاته وإن لا سبيل للخروج من سجن الذات ده. اللي يقصده ديكارت إن معرفتنا بالعالم بتم من خلال الرؤية الذاتية: كأننا قاعدين في علبة صغيرة وخارمين فيها فتحة علشان نبص منها على العالم الخارجي، أي حاجة بنشوفها في العالم الخارجي محكومة باللي الفتحة دي بتسمح لنا برؤيته.
بعد ديكارت بثلاثة قرون، جيه الفيلسوف النمساوي لودفيج فيتجنشتاين Ludwig Wittgenstein عمل لنا تجربة الخنفسة في الصندوق اللي اتكلمنا عنها قبل كده. فيتجنشتاين أثبت من خلال التجربة دي إن على الرغم من إننا كجنس بشري اتفقنا على معاني مشتركة للأشياء المادية والمعنوية إلا إن كل واحد منا بيختبر الشيء ده بشكل مختلف خالص عن أي شخص تاني، وبالتالي فاحنا محكومين بتجاربنا الشخصية للأشياء واللي بنعكسها على الأشخاص الآخرين وبنعتبر إنهم بيختبروها بنفس الشكل لأن مفيش أي سبيل إني فعلاً أشوف الدنيا زي ما هم شايفينها، أو – من الأخر – إني أكون أي شخص آخر غير أنا.
أديت مثال على ده بمفهوم الألم. كل واحد مننا فكرته عن الألم مختلفة، وبالتأكيد كل واحد فيكم مجرد ما قرأ كلمة “ألم” رجع لتجربة ذاتية شعورية ما واستحضرها علشان يستوعب الكلمة، بس في النهاية كلنا بنتظاهر إن فكرتنا عن الألم مشتركة. نفس اللي بيحصل لما بتلاقوا حد كاتب بوست\تويت عن الحب أو عن الثورة أو عن المهلبية.. إلخ. من يومين كده كنت بتفرج على فيلم فيه طفلتين اتخطفوا وأي مشهد كان بيصور معاناة الأب والأم كنت بلاقي نفسي تلقائي بستحضر أو بتخيل تجربة ذاتية.. كنت بتخيل لو ده هحصل لبنت أخويا مثلاً وقلبي كان بيتقطع فعلاً.
هي دي الفكرة، عمرنا ما هنقدر نشوف الدنيا إلا من خلال السجن بتاعنا زي ما ديكارت ما قال، أو من خلال الصندوق اللي في إيدينا زي ما فيتجنشتاين وَضّح.
الفلسفة الأنوية ما وقفتش عند المحدودية المعرفية بس وبتسألنا: طيب بما إننا ما بنقدرش نختبر العالم إلا من خلال ذواتنا، ليه بنعتبر أصلاً إن فيه أي حاجة موجودة في العالم غير اللي احنا عارفينه وحاسين بيه؟ بتقول لنا ماذا لو كل اللي بيحصل حوالينا في الدنيا بواقعها وخيالها وبابا غنوجها هو انعكاس لأفكارنا ومشاعرنا وطموحاتنا ومخاوفنا زي بالظبط اللي حصل مع العلماء في فيلم Sphere؟
الفكرة مثيرة للاهتمام ومرعبة جدًا. مثيرة للاهتمام لأنها بتدفع الإنسان للتفكر في إنه قادر على التحكم في ظروفه واللي حواليه بما إن كل حاجة بتحصل له ما هي إلا مجرد انعكاس لذاته، بالمعنى الحرفي والنفسي. ومرعبة لأنها بتحط كل إنسان مكان الإله وبتقول له مفيش غيرك في الكون وإن كل حاجة موجودة حواليك علشان تخدم الواقع بتاعك أنت اللي مفيش غيره أصلاً. ده معناه إن كل الناس التانية اللي في العالم دي ملهاش وجود وإنهم مجرد جزء منك.. حاجة كده زي سيناريو The Matrix بس أنت الإنسان الوحيد اللي متوصل بالجهاز والنسخة دي من الواقع معمولة علشانك أنت بس.. يعني ماما وبابا وسميرة صاحبتك وحمادة ابن خالتك وطنط وفاء جارتك وعم ممدوح البقال كلهم ملهمش وجود في الواقع بمعزل عنك، هم موجودين علشان أنت تشوفهم وتتعامل معاهم. الفرق بس إن الأنوية بتقول لك إن المايتركس هي عقلك، كل حاجة حواليك في الكون هي نتاج عقلك وأنت الذات الوحيدة العاقلة في الكون.
ولو بصينا على الموضوع من ناحية نفسية فيه حالات من مرضى الذهان بيبقوا مقتنعين إن فعلاً مفيش أي حد أو أي حاجة حواليهم حقيقية وإن كل الواقع بتاعهم ده هو نتاج عقلهم ومخيلتهم، من وجهة نظر الفلسفة الأنوية الناس دس مش مجانين واحنا اللي مجانين.
بعيدًا عن الفلسفة والاحتمالات والخزعبلات، اللي بيهمني من أي فلسفة هو الجانب الأخلاقي منها. لو الفلسفة الأنوية بتقول لي إن مفيش غيري في الكون وإن مفيش أي طريقة أقدر أعرف بيها أي حاجة إلا من خلال ذاتي، هل ده يدفعني إني أكون شخص أناني ولا العكس؟
ممكن حد يقول أكيد يعني هبقى أناني! واحد شايف إن ذاته هي الحاجة الحقيقية الوحيدة في الكون فأكيد هيرمي أفكار زي التعاطف والمشاركة والحاجات دي في أقرب سلة زبالة ويركز على مشاعره ورغباته هو بس. ممكن حد تاني يقول لأ، لما أقتنع إن كل شخص حواليا هو امتداد\انعكاس لذاتي فده معناه إن محاولاتي لفهم الشخص الآخر هي أيضًا محاولات لفهم ذاتي.
الفهم ده للفلسفة هو بالظبط اللي استخدمه الكاتب الأمريكي آندي وير Andy Weir في قصته القصيرة “البيضة” “The Egg” اللي اتكلمت عليها كتير قبل كده واللي بيقول لنا من خلالها إن الإنسان بعد ما بيموت بيكتشف إن كل الناس اللي عاشت وعايشة وهتعيش على الأرض هي شخص واحد والكون ده كله معمول علشانه، وبالتالي فأن أي شخص بتقابله في حياتك وأحسنت إليه فأنت كده أحسنت لنفسك وأي شخص أسأت إليه فأنت كده أسأت لنفسك.
حتى لو ركزنا بس على فكرة محدودية المعرفة في الفلسفة الأنوية، هنلاقي إن لو اقتنعنا بأن كل قرارتنا وأحكامنا ورؤيتنا للعالم ككل مهما بدت في ظاهرها موضوعية فهي برضه متأثرة برؤينا الذاتية المحدودة، وده يخلينا نهبط شوية ونبطل نفترض إن كل ما هو بديهي\أخلاقي\جمالي\بطيخي بالنسبة لنا هو بالضرورة بديهي\أخلاقي\جمالي\بطيخي للآخرين.
سواء شوفت الفلسفة الأنوية على إنها محدودية المعرفة أو تفرد الوجود، ففي الحالتين النتيجة واحدة: أنت لوحدك.. بس على الأقل كلنا مشتركين في حالة الوحدة دي.
لسا مكتشف البلوج من يومين ومسحول فيها استمر يا صديقي
إعجابإعجاب
ده شيء يشرفني والله
إعجابإعجاب
أتمنى الإكثار بالفلسفة خصوصًًا الفرضيات والمفارقات
إعجابإعجاب
حاضر
إعجابإعجاب