
في ظل هذه الظروف العصيبة التي يمر بها العالم، بدل ما نستسلم للفزع ممكن نسلي نفسنا بممارسة أبسط الأنشطة الإنسانية، ألا وهي – لا مش اللي في دماغكم – حكي الحواديت والانخراط في المشاكل الوجودية والأسئلة الفلسفية.
النهاردة هنتكلم عن عرافة كوماي The Sibyl of Cumae..
اللي قرأ فيكم قصيدة “أرض الخراب” The Waste Land (1922) للشاعر توماس ستيرنز إليوت T. S. Eliot هيفتكر إنه ابتداها باقتباس من الكاتب الروماني بترونيوس Petronius بيقول فيها:
“لقد رأيت بأم عيني عرافة كوماي معلقة في إناء زجاجي، وعندما سألها الأطفال: أيتها العرافة، ماذا تريدين؟.. أجابت: أريد الموت.”
موت إيه وكوماي فين والست دي مين؟! نفرمل هنا شوية ونحكي الحدوتة من أولها.
وفقًا للأسطورة، كان فيه عرافة في مدينة كوماي معروفة بإخلاصها للمعبد وجمالها المبهر – كالعادة يعني! – وده خلى مين بقى يقع في حبها؟ الإله أبولو Apollo. أبولو عرض على العرافة إنه يحقق لها أي أمنية هي عايزاها مقابل إنه ينام معاها (في الروايات المؤدبة من الأسطورة، مقابل إنها تحبه). العرافة قعدت تفكر لحد ما قالت لأبولو “خلاص يا عم هنام معاك بس في المقابل عايزاك تخليني أعيش سنين بعدد حبات الرمل اللي في أيدي دي.” وراحت مسكت حفنة من الرمال في إيديها – كبشت شوية رملة من الأرض يعني – ووريتهم لأبولو. أبولو قال لها “بس كده؟ من عينيا يا ست البنات.” وفعلاً حقق لها أمنيتها. يُقال إن عدد حبات الرمل اللي هي مسكتهم كان ألف فالبتالي عاشت ألف سنة.
أبولو بقى جيه يطالبها بتنفيذ الجزء بتاعها من الصفقة بس العرافة رفضت وقالت له لأ ماينفعش أنا خادمة للمعبد وشرفي وكلام من ده. طبعًا أبولو أتجنن وحس إنه أتقرطس من العرافة لأنها خلفت وعدها له، فقرر ينتقم منها انتقام ملائم لغضب الآلهة.
أبولو ما أخدش منها الحياة شبه الأبدية اللي منحها لها – علشان مايبقش شكله إله عيل برضه – ولكنه فكر إنها في طلبها ماحددتش هي عايزة تعيش الحياة المديدة دي إزاي. فأداها فعلاً الحياة شبة الأبدية ولكن ما أدهاش معاها هبة الشباب، بالتالي العرافة فضلت تكبر تكبر تكبر وجسمها يضعف وعظامها تتهالك من غير ما تموت. جسم العرافة فضل يذبل بالشكل ده لحد ما أصبح كومة من اللحم والعظم.. الناس حطوها في برطمان وعلقوها في شجرة لحد ما عدت الألف سنة وماتت.
عقاب أبولو للعرافة بيفكرنا بعقابه لكاسندرا لو تفتكروا.. كاسندرا برضه وعدته إنها هتنام معاه وبعد ما أخدت منه القدرة على التنبؤ رفضته (تقريبًا أبولو كان إله الفريند زون) وبالتالي لعنها بإنه خلى كل اللي يسمعها مايفهمهاش ولا يصدقها. الاتنين ما أخدش منهم المنح اللي وهبها لهم في الأول، لكن عرف يحول المنح الإلهية دي للعنات.
أول سؤال تبادر لذهني بعد قراءة الأسطورة، ليه ممكن حد يتمنى حياة طويلة أقرب للخلود؟ من جمال الحياة أوي؟

الفيلسوف الإنجليزي برنارد ويليامز Bernard Williams بيحاول يجاوب لنا على السؤال ده في مقاله الشهير “The Makropulos Case: Reflections on the Tedium of Immortality” (1973). ويليامز بيقول إن احنا كجنس بشري مدفوعين بحلم الخلود والحياة المديدة مش حبًا في الحياة على قد ما هو خوف من الموت.. الخوف من المجهول أو من الفناء، إن الذات هتتوقف عن الوجود، إن احنا لسه ماخدناش كفايتنا من الحياة وإن أكيد فيه أكتر.
ويليامز بيقول لنا إن الشعور ده خادع لإن متع الحياة praemia vitae أو خوفنا من الموت بيعتمد بشكل رئيسي على رغباتنا غير المشروطة اللي كل ما زادت هتزيد رغبتنا في الحياة وخوفنا من الموت. هي إيه أصلاً الرغبات غير المشروطة دي؟
ويليامز بيقسم رغبات الإنسان لنوعين: رغبات مشروطة contingent desires ورغبات غير مشروطة categorical desires. الرغبات المشروطة هي الرغبات العابرة اللي بتجيلي طالما أنا عايش لكن مش عايش علشانها، زي مثلاً رغبتي في إني أطلب بيتزا دلوقتي علشان جعان. الرغبة مشروطة بالجوع.. أول ما الجوع يروح، الرغبة مش هتبقى عندي خلاص، وأكيد برضه أنا مش عايش علشان أكل بيتزا دلوقتي. أما الرغبات غير المشروطة فهي الرغبات اللي بعيش علشانها.. اللي بتدي معنى وسبب للاستمرار في الحياة، زي مثلاً إني أبقى أنجح رجل أعمال في المجرة أو إني أربي أولادي كويس.. وهكذا، كل واحد وحسب شخصيته. وليامز بقى بيقول إن الرغبات غير المشروطة دي هي اللي بتزيد تعلقنا بالحياة ونفورنا من الموت.
وعلشان كده عزيزي القارئ الشخص المصاب بالاكتئاب بيبقى غالبًا استنفد رغباته غير المشروطة لسبب أو لآخر وبقى عايش على الرغبات المشروطة العابرة وبالتالي كاره للحياة ومتقبل فكرة الموت.
ويليامز شايف إن الرغبة في الخلود أو العمر المديد فكرة سيئة لأن الإنسان هيجي عليه وقت لازم يستنفد فيه رغباته غير المشروطة، ده غير إنها أصلاً فكرة متناقضة لأن رغبة الإنسان في الخلود بتبقى مدفوعة بالحفاظ على الذات\النفس في حين إن السعي وراء تحقيق الرغبات غير المشروطة مبني على تغيير الذات\النفس. يعني إيه الكلام المكعبل ده؟
يعني الإنسان بطبيعته جواه غريزة الحفاظ على النفس.. جسمًا ووعيًا وكل حاجة، وعلشان كده فكرة الموت مخيفة لمعظمنا. لكن علشان نفضل عايشين ونحب الحياة وبتاع محتاجين نفضل نجري ورا رغبات غير مشروطة، ولكن طبيعة الرغبة غير المشروطة هي – على حسب كلام ويليامز – الهروب من الذات اللي مش هنقدر نواجهها لو مفيش حاجة تلهينا عنها أو توعدنا بتغييرها.. الشخص اللي عايز يبقى أحسن رجل أعمال في المجرة نفسه يبقى شخصيته كذا وكذا وبالتالي بيعمل جاهدًا علشان يوصل لده، الراجل اللي عايز يربي أطفاله كويس برضه عايز يشوف فيهم صفات مش عنده وبالتالي يشوف نفسه شخص أحسن.. وده التناقض اللي في قلب رغبتنا في الحياة: عايزين نعيش علشان نحافظ على ذواتنا اللي إحنا مش طايقينها أصلاً.

في رواية Interview with the Vampire (1976) للكاتبة آن رايس Anne Rice (ايوه هي اللي اتعملت فيلم) واللي بنصح بقراءتها جدًا لأنها ذات طابع فلسفي نفسي، واحد من مصاصي الدماء وأكبرهم عمرًا، أرماند Armand، بيتكلم بشكل مفصل عن فكرة الخلود وإن أبشع جزء فيها إنه بيضطر يواجه ذاته اللي مابتتغيرش في حين إن كل حاجة حواليه بتتغير، وكأن ذاته – وعيه وذكرياته وأهرماته – هي الحاجة الثابتة الوحيدة في حياته وفي نفس الوقت السجن اللي مش عارف يهرب منه.
إيه علاقة ده كله بالعرافة الغلبانة اللي قاعدة في البرطمان؟
استمرار العرافة في الحياة بلا جسد هو رمز لحياة الإنسان بلا رغبات غير مشروطة، أو ممكن نسميها إلهاءات طويلة المدى. عقاب أبولو للعرافة هو إنها تفضل تواجه نفسها\وعيها بشكل مجرد.. ودي اللعنة الحقيقية اللي ويليامز بيقول لنا عليها، واللي أسوأ مليون مرة من الموت.
طيب، إحنا كده اتكلمنا عن فكرة الخلود أو الحياة الطويلة بشكل حرفي في حين إن الفكرة ليها بعد آخر رمزي. فيه أشخاص بتسعى للخلود بشكل مجازي، يعني تسيب أثر في حياتها وحياة اللي حواليها بحيث الناس تفضل فاكراهم حتى بعد موتهم. هل دي حاجة كويسة ولا لعنة برضه؟
من وجهة نظري، هي فكرة منيلة برضه لأن لو افترضنا إن ذاتك اللي عايز تحافظ عليها دي انتقلت لذكراك – اللي الناس فاكرينك بيه يعني – فأنت فقدت السيطرة عليها لأنها هتبقى عايشة في أدمغة وذكريات ناس تانية هم المتحكمين فيها وهيحطوك بالشكل وفي الشكل اللي شايفينه مناسب لك (مش اللي أنت كنت متخيله خالص).. مهما كانت ذكراك حلوة مسيرك هتتحول لفكرة متيبسة محبوسة في عقول الناس زي العرافة ما كانت محبوسة في البرطمان.

فيه قصة جميلة جدًا اسمها “Metamorphosis” للكاتب الأمريكي دايفد إيجلمان David Eagleman ضمن مجموعته القصصية Sum: Forty Tales from the Afterlives (2009) واللي بيتخيل فيها سيناريوهات مختلفة للي هيحصل بعد ما نموت. السيناريو في القصة دي هو إننا لما نموت هنصحى نلاقي نفسنا في مكان زي صالة الانتظار في المطارات وفيه صوت بينده على أسماء بعينها.. بنكتشف بعد كده إننا بنفضل قاعدين في الصالة طول ما فيه حد على الأرض – في الحياة يعني – فاكرنا وبيتفوه بأسمائنا، وأول ما أخر شخص فاكرنا بيموت بيتنده على اسمنا وبنروح لمكان أحسن بس مانعرفش إيه هو.
الراوي بيحكي إن لما حد بيبقى لسه واصل ويتنده على اسمه بيحس بالحزن علشان كده بيعرف إن محدش هيفتكره على الأرض تاني خلاص، بس بيلاحظ برضه إن فيه مجموعة كبيرة من الناس، أشرار وطيبين، هيتجننوا من طول القعدة في صالة الانتظار دي لأن واضح بقالهم مئات وآلاف السنين.. قاعدين رايحين جايين وبيبكوا وبيتوسلوا للشخص اللي بينده الأسماء إنه ينده أسماءهم ويخلصهم من العذاب ده بس بيرفض ويطلب منهم الانتظار.
القصة قصيرة جدًا بس بديعة في تصويرها لبشاعة فكرة الخلود سواء بالمعنى الحرفي أو المجازي.
العرافة أصبحت حبيسة جسدها المتهاوي كإنسانة ثم أصبحت حبيسة الإناء الزجاجي كفكرة، ويمكن رغبتها في الموت لما الأطفال سألوها عايزة إيه هي أيضًا رغبة في أن تُنسى.
دمتم أحرارًا.. جسدًا وذكرى.
فرحت جدا انك عاملة بلوج، مقال رائع كالعادة!
إعجابإعجاب
شكرًا لذوقك 🙂
إعجابإعجاب