
هل حصل قبل كده إن حد شكك لك في ذكرياتك لدرجة إنك مابقتش عارف إذا كانت حصلت فعلاً ولا لأ؟ طيب تعمل إيه لو الذكريات المُشكك فيها دي واضحة وضوح الشمس في دماغك وكأنها حصلت امبارح؟ هل هتكدّب نفسك ولا هتكدّب اللي حواليك؟
سنة 2009 سيدة أمريكية اسما فيونا برووم Fiona Broome لاحظت انتشار الموضوع ده خصوصًا بعد ما وجدت تعليقات على الانترنت من ناس كتيرة جدًا من أماكن مختلفة في العالم بيتكلموا عن موت نيلسون مانديلا Nelson Mandela اللي كان ساعتها حي يرزق لسه – الراجل مات سنة 2013 – وإزاي إن عندهم ذكريات واضحة مشتركة عن موته في السجن في التمنينات لدرجة إن بعضهم كانوا فاكرين مشاهدة جنازته في التلفزيون كمان! برووم ابتدت تبحث في الموضوع أكتر وعملت مقابلات واكتشفت إن فيه عدد مهول عندهم ذكريات جلية عن موت نيلسون مانديلا، ومن هنا برووم اسمت الظاهرة دي ب”تأثير مانديلا” The Mandela Effect. برووم ابتدت تلاقي أمثلة تانية على وجود الظاهرة دي زي الراجل أبو شنب اللي مرسوم على لعبة مونوبولي (في ذكريات ناس كتيرة إنه كان بنضارة في حين إنه في الحقيقة مش لابس نضارة) ولوحة الموناليزا (الناس اختلفوا على ابتسامتها برضه اللي كانت في ذاكرتهم أوضح من كده).
برووم قالت إن الظاهرة دي ليها تفسيرين.
التفسير الأول إننا عايشين في كون متعدد الأبعاد أو ما يُسمى بالـ multiverse وإن سبب وجود ذكريات واضحة عندنا لا تتناسب مع الأحداث التاريخية هو إن الأبعاد دي بتتداخل مع بعضها. وسريعًا كده اللي مش عارف إيه موضوع تعدد الأكوان ده، فببساطة ده اعتقاد مثير للجدل في فيزياء الكم بيقول إن الكون بتاعنا مش بيتكون من مكان وزمان واحد وإنما من عدة أكوان متشابهة ماشية بشكل متوازي مع اختلافات في كل كون منهم. يعني أنت فيه نسخة منك في كل كون من الأكوان دي.. ممكن في واحد أنت دخلت الكلية اللي نفسك فيها، في كون تاني خالتك هي عمتك، في كون تالت أنت ست مش راجل، في كون رابع أنت ماتولدتش أصلاً، في كون خامس السيزون الأخير من جيم أوف ثرونز كان حلو.. وهكذا. المهم يعني إن تأثير مانديلا ده بيحصل لما الأكوان المتوازية دي بتتداخل مع بعضها لوهلة من الوقت. ده معناه إن ذكريات الناس عن موت مانديلا حقيقية وإنه مات فعلاً في التمنينات بس في كون موازي تداخل مع الكون بتاعنا في فترة ما.
أما التفسير التاني فهو إننا عايشين في محاكاة simulation متطورة جدًا – اتكلمنا عن الموضوع ده باستفاضة لما جبنا سيرة نظرية نِك بوستروم Nick Bostrom – وإن كل اللي بيحصل من صدف وأمور خارقة للطبيعة هي مجرد أخطاء glitches في المحاكاة.
طبعًا علماء النفس والأعصاب ردوا على برووم وقالوا لها كفاية هبل بقى يا ست! أكوان موازية ومحاكاة إيه بس.. الظاهرة اللي بتوصفيها دي هي ببساطة الذكريات الكاذبة ودي حاجة معروفة في علم النفس والأعصاب. فكرة الذكرى الكاذبة false memory موجودة من زمان وفرويد كان من أوائل الناس اللي اتكلموا عنها وبتشير للذكريات المغلوطة التي بتنتج من تسجيل أو استدعاء دماغنا للأحداث بشكل مختلف مما كانت عليه في الواقع لأسباب عديدة منها وجود خلل عصبي ما أو التعرض لصدمة.. إلخ، أو ممكن يكون سبب وجود الذكريات الكاذبة أبسط من كده بكتير وهو إن ذاكرة الإنسان بطبيعتها انتقائية وتميل لخلق الأنماط المألوفة وبالتالي بتقوم بعمليات ذي الحذف والتبديل.
الكاتب الأمريكي مايكل شيرمر Michael Shermer بيقسم المغالطات اللي بتقوم بيها الذاكرة لنوعين أساسيين: النوع الأول هو الربط بين حدثين\حاجتين ملهمش علاقة ببعض علشان الذاكرة تخلق نمط معين متعودة عليه، والنوع التاني هو رفض شيء ما واقعي أو علاقة حقيقية بين شيئين لإنها لا تتناسب مع النمط اللي الذاكرة متعودة عليه. شيرمر بيقول لنا إن النوعين قايمين على فكرة الإيمان وإن الـ default بتاع دماغنا كبني آدم هو البحث عن أنماط علشان نؤمن بيها لأن عبثية ولانمطية الواقع أكبر من إن عقلنا يستوعبها.
تعالوا ناخد مثال عبيط كده علشان نوضح الفرق بين النوعين:
فلنفترض إنك عملت مصيبة سودا في العمارة اللي أنت ساكن فيها فجيرانك اتلموا عليك في يوم وقعدوا يضربوا فيك وعدموك العافية. المهم بعد ما طلعت شقتك افتكرت إنك في نص المدعكة سمعت صوت الحاجة فيفي اللي في التاسع وهي بتقول “كفاية ضرب في الولد حرام” في حين إن اللي قالت كده في الحقيقة هي مدام سوسن اللي في التالت والحاجة فيفي اللي في التاسع كانت نازلة عض فيك بطقم السنان الجديد أصلاً. طيب ليه ذاكرتك عملت كده؟ عقلك اختار إن يربط بين اللمحة اللطيفة دي وبين الحاجة فيفي اللي في التاسع لأن أنت بتحبها علشان بتفكرك بجدتك وجدة صاحبك اللي ربتك بعد ما جدتك ماتت، فبالتالي علشان عقلك يحافظ على نمط “كل الجدات طيبات” ده ربط بين الجملة وبين الحاجة فيفي اللي في التاسع (النوع الأول). أما لما عقلك قرر إنه يرفض الصوت اللي قال الجملة دي كصوت مدام سوسن اللي في التالت فده علشان هي مدرسة حساب وأنت بتكره كل مدرسات الحساب علشان كانوا بيعذبوك وأنت صغير، فبالتالي عقلك رفض شيء حقيقي حصل علشان يحافظ على نمط “كل مدرسات الحساب شريرات” (النوع التاني). وزي ما قولنا العقل في استدعائه للذكريات بيلجأ للحفاظ على الأنماط المألوفة ليه لأن لو ماعملش كده هيضطر يواجه عدد لا نهائي من الأحداث العبثية ومخك مش مستعد إنه يتقبل بشكل واعي حقيقية إن فيه جدات شريرات وإن فيه مدرسات حساب طيبات وبالتالي يهدم كل الأسس اللي قايمة عليها معتقداتك.
شيرمر بيقول إن الذكريات الكاذبة دي أحيانًا بتحصل بشكل جمعي لما بتكون بخصوص أمور غريزية أو خبرات مشتركة وده من أهم أسباب وجود الخزعبلات والأمور الخارقة للطبيعة. ده بيفسر حالات الناس اللي بتشوف معجزة في دار عبادة مثلاً لأن كلهم بيبقوا متدينين فعقولهم بتلجأ لدعم نمط مشابه من الربط بين الأشياء فذكرياتهم عن الحدث بتبقى واحدة.
اللي بيقوله شيرمر وغيره من علماء النفس بيفسر ظاهرة تأثير مانديلا وإن الذكريات اللي قد تبدو حقيقية للبعض – حتى لو اختبرها أكتر من شخص – قد تكون نتاج طبيعة عقولنا للربط بين الأشياء والتلاعب بالواقع من أجل الحفاظ على الأنماط اللي بتكوّن شخصيتنا. يعني ممكن يكون جنازة مانديلا اللي الناس بيحلفوا إنهم شافوها في التلفزيون دي تكون بتاعت حد تاني مشهور بس عقلهم مسح الشخص وحط مكانه مانديلا في الذكرى، أو إن الراجل بتاع مونوبولي ده شبه شخصية كرتونية تانية لابسة نضارة والعقل ضمّنّهم في صورة واحدة.
كمان فرويد أشار لحاجة اسمها الذكريات المقنّعة screen memories – اتكلمنا عليها قبل كده – وإن إزاي عقلنا بيجيب ذكريات من الماضي وبيتلاعب بتفاصيلها علشان يعكس رغبة حالية للنفس. يعني ذكرياتك الكاذبة ممكن تكون انعكاس لمشكلة أنت بتمر بيها دلوقتي.
على الرغم إن تفسير علماء النفس منطقي وعقلاني وكلام الأخت فيونا برووم مايقنعش بصلة مفرومة، إلا إن فكرة الأكوان المتعددة دي مثيرة جدًا بالنسبة لي وأعتقد لأي حد تاني – زي حالاتي – عايز كل حاجة في نفس الوقت ومش راضي عن أي حاجة وفكرة “الواقع” الواحد اللي مفروض علينا مقيدة بالنسبة له. مجرد إمكانية إن يمكن في كون موازي ما أنت دلوقتي قاعد مع اللي بتحبه\ها أو اشتغلت في المكان اللي نفسك تشتغل فيه أو بعدت عن الشخص اللي بيؤذيك مريحة ومربكة في نفس الوقت.. أو فكرة إنك بتختبر كل الحاجات دي بكل احتمالاتها في نفس الوقت! ده غير إنها بتدي بعد تاني خالص لفكرة الذكريات اللي حصلت لنا ومابنبقاش عارفين ده كان حلم ولا حقيقية.. ويمكن السبب في إننا شايفينها فكرة مثيرة هو إن برضه عقلنا مش عايز يتقبل فكرة العبث وبيبحث عن النظام والأنماط حتى لو كان في شكل أكوان موازية متداخلة وماتريكس وأي بتنجان.
ده الموقع بتاع الأستاذة فيونا برووم اللي مخصصاه لظاهرة تأثير مانديلا.
وده فيديو لمايكل شيرمر بيتكلم عن نوعين المغالطات السالف ذكرهم.
دمتم متحابين متوازيين متداخلين.
رأيان حول “تأثير مانديلا والذكريات الكاذبة”