مفارقة الاختيار ووهم الحرية

سنة 2000 باحثين في علم النفس والاجتماع عملوا تجربة ظريفة في ولاية كاليفورنيا في أمريكا. التجربة كانت ببساطة إنهم راحوا سوبر ماركت وجم عند الرفوف اللي فيها المربى وحطوا أنواع كتيرة جدًا وبعد كام ساعة كده شالوا الأنواع الكتيرة وسابوا ستة أنواع مربى بس. بعد انتهاء اليوم اكتشفوا إن عدد الناس اللي اشتروا مربى في الفترة اللي كان فيها ستة أنواع على الرف أكتر من الناس اللي اشتروا في الفترة اللي كان فيها حفنتلاف نوع على الرف.

التجربة دي اتسمت ب”تجربة المربى” The Jam Experiment وبتستخدم في علم النفس وعلم التسويق في الإشارة إلى ظاهرة مفادها إن كل ما بتزود الاختيارات قدام المستهلك كل ما قلت رغبته الشرائية.

سنة 2004 عالم النفس الأمريكي باري شوارتز Barry Schwartz ألف كتاب اسمه The Paradox of Choice أو مفارقة الاختيار وأتكلم فيه عن إن إزاي النظام الرأسمالي بيعمل على إغراق المستهلك أو الإنسان المعاصر الغلبان بالاختيارات المتعددة المتجددة علشان يضمن استمرارية الاستهلاك ولكن النتيجة غالبًا بتكون عكس ذلك لأن المستهلك بيصيبه ما يُسمى بشلل الاختيار choice paralysis والسبب فيه إن المستهلك بيدرك العدد المهول من الاختيارات اللي قدامه وبالتالي بيحس بمسئولية اختيار المنتج الأفضل والأنسب فبيضيع وقت أطول في عملية المفاضلة اللي في الأغلب بيتوه في نصها وبيفضل الخوف من الخطأ ملازمه طول الوقت والإحساس بالعجز لأنه مش قادر يجرب كل الأنواع التانية اللي هو مش هيختارها واللي ممكن تكون أنسب له.

الشلل ده بيفكرني بالمشهد اللي قولت لكم عليه قبل كده من فيلم The Hurt Locker لما زوجة الجندي الأمريكي وليام اللي لسه راجع من العراق بعتته السوبر ماركت يشتري علبة سيريال لابنهم واتصدم من العدد المهول من الأنواع اللي المفروض يختار منها. والمشهد متصور من زاوية مخلية حجمه ضئيل ومُهمش قدام الأرفف العملاقة.

The Hurt Locker, 2008

المهم في موضوع تعدد الاختيارات غير المنطقي ده إن بيبيع في طياته وهم الحرية والتمكن والتفرد – بما إن كل الاختيارات دي قدامي ومتاحة فأنا برنس كده – في حين إنه مابيخلقش غير التشتت والتحنيس للأسباب اللي أشار إليها شوارتز. سارتر Sartre برضه أتكلم عن الموضوع ده قبل شوارتز بكتير بس من ناحية وجودية وقال كل ما الإنسان بيدرك مسئوليته في اختيار معنى ومسار لحياته من كل المعاني والمسارات المتاحة بيتولد جواه نوع من الدوار أو الذعر الوجودي.

أعتقد إن الإنترنت والسوشيال ميديا هم حاليًا أوضح مثال على موضوع مفارقة الاختيار ده. كل مواقع التواصل الإجتماعي والتسوق الإلكتروني وغيرهم بيبيعوا لنا وهم السيطرة والوصول. في ثانية ممكن أعرف رأي 86794 ألف بني آدم بخصوص حدث معين أو أتفرج على 985 جزمة.. مجرد إمكانية الوصول للعدد المهول ده من الآراء والاختيارات حاجة مثيرة جدًا بس بيجي معاها أزمة التشتت اللي جيلنا عايش فيها. هل يا ترى الجزمة اللي هتختارها بعد ما تتفرج على ال 985 كلهم هتبقى فعلاً هي الاختيار الأنسب ولا هتفضل تفكر في ال984 التانيين اللي ماقدرتش تيجبهم علشان أنت فقير\متخلف\مابتعرفش تختار\بتخاف تجرب؟ وهل البنت\الولد اللي هتختار تكلمهم على الdating app دول هم أنسب حد ولا هتفضل تفكر في كل الناس التانية اللي قررت تعديهم واللي ممكن تكون شخصيتهم أو شكلهم أحلى؟ فبتلاقي نفسك لا عارف تستمتع بالحاجة اللي معاك ولا عارف توصل لكل الاختيارات الأخرى المتاحة، وحاجة اللي هو fear of missing out في أبهى صوره.

مش كل الناس أكيد بتتأزم من موضوع تعدد الاختيارات الزيادة ده وبيتعاملوا عادي، بس أعتقد الأغلبية بيحسوا بالضآلة والعجز زي وليام جيمس قدام رفوف السيريال في السوبر ماركت.

فيه ناس شككت في تجربة المربى ونظرية شوارتز وقالوا إن الموضوع نسبي ولا ينطبق بشكل مطلق على كل حاجة لإنه بيعتمد على السلعة\الخدمة والمستهلك والوقت والمكان وعوامل تانية كتير لو اتغيرت هتغير من القدرة الاستهلاكية. حاجة كمان، لو النظرية دي صحيحة والموضوع بيقلل الربح ليه الشركات ومقدمي الخدمات مستمرين في إغراقنا في السلع؟ مش منطقي برضه.

ده حقيقي، ممكن يكون استهلاكنا بيزيد بس سعادتنا أو قدرتنا على الاستمتاع بالسلعة\الخدمة بتقل. كل ما تحاول تتبع نظام غذائي تلاقي 600 ألف غيره وكل واحد له لجان ومؤيدين إنه أحسن نظام غذائي في الدنيا فماتبقاش عارف تكمل في اللي أنت بتعمله وأنت حاسس إن فيه أنظمة تانية أحسن ولا تضيع أضعاف الوقت والمجهود في تجربة الأنظمة التانية كلها؟ كل ما تحاول تتابع مسلسل جديد تلاقي 100 واحد غيره ظهروا وكل الناس بتتفرج عليهم فيا تسيب اللي بتتفرج عليه يا تقلبه بسرعة علشان تلحق تشوف اللي الناس بيتكلموا عليهم. كل ما تحاول تبدأ في شهادة ولا دبلوم ما تلاقي مليون غيره وكلهم بيوعدوك بمستقبل أحسن وفرص أفضل فتفضل تلوم نفسك على اختيارك الحقير المنيّل. في النهاية بنلاقي نفسنا بنجري علشان نلبي احتياجات مش عندنا أصلاً وبنستهلك أكتر من مقدورنا وعلى الرغم من كده – أو علشان كده – مش عارفين نستمتع بأي حاجة.

الرأسمالية قايمة على إقناعنا إن الحياة سباق وإن فيه اختيارات أحسن في كل مكان حوالينا. لو عرفنا نتخلص من الفكرتين دول ونعيش الحياة بالإيقاع بتاعنا ونؤمن إن الاختيارات كلها واحد ومفيش صح وغلط في المطلق وفي النهاية الاختيارات بتعتمد على طريقة رؤيتنا لها أعتقد هنبقى أسعد شوية.


رأي واحد حول “مفارقة الاختيار ووهم الحرية

اترك رد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s