
مقتنعة بأن الشعور بالوحدة صديق دائم لأي حد مبدع مهما كان محاط بناس وبغض النظر الناس دي كانت بتحبه ولا لأ. السبب في ده مش بس إنه بيشوف الحياة بشكل مختلف متفرد بيعبر عنه بشكل رمزي (فنّه)، ولكن بسبب الرغبة المُلحة في فحص وتحليل كل شيء بيدور حواليه بما فيهم المشاعر نفسها. الإبداع بيصاحبه عقل قَلِق – قلوق يعني – مش على بعضه مابيتقبلش الأشياء كما هي وحاطط كل حاجة تحت المايكروسكوب علشان يشرّحها ويفصصها ويعيد تشكيلها في عدد لا متناهي من الاحتمالات والسيناريوهات اللي طبعًا بينتج عنها الفن بتاعه.
كون الوجدان في حالة تأهب دائم كده بيفرض على الشخص المبدع نوع من العزلة لأن رغبته في التحليل دي بيطبقها على نفسه هو شخصيًا.. مهما كان الموقف اللي بيمر بيه أو المشاعر اللي حاسس بيها، تلاقي جزء منه لابس نضارة وواقف بشكل حيادي يرصد ويسجل المشاعر دي. والجزء الراصد أبو نضارة اللي بيحلل ويرصد ويشكك بيَحول بين الشخص المبدع وبين الاندماج التام في مشاعره فبينتج عنه شعور بالعزلة مش بس عن الآخرين ولكن عن نفسه هو كمان، لأنه على طول شايف نفسه من برّه.
كلامي مش معناه إن الشخص المبدع مابيحسش.. بالعكس، ده إحساسه الزايد بالأشياء ورغبته في رصد كل المشاعر وفهمها على أكمل وجه بيحوله لعالِم متحمس طول الوقت حابس نفسه في المعمل علشان يحلل ويجرب ويفهم.
فيلم Iris (2001) اللي بيتكلم عن حياة الكاتبة البريطانية إيريس موردوك Iris Murdoch فيه مشهد إيريس وجوزها بيستقبلوا صديق في بيتهم، فجوزها وهو بيهزر معاه بيقوله ياخد باله من إنه مايقربش من إيريس زيادة عن اللزوم لأنها بتستخدم الناس المقربين لها في كتاباتها. الجملة كانت عابرة وممكن مايكونش ليها معنى بس حسيت إنها بتلقي الضوء على علاقة إيريس بجوزها واللي كانت محور الفيلم. على الرغم من حبهم الشديد لبعض إلا إن إيريس كانت دايمًا منعزلة بمشاعرها، هي مش عزلة على قد ما هي عدم القدرة على الانخراط التام في أي شعور بسبب الجزء الناقد من دماغها، فكل الأشخاص حواليها – بما فيهم هي نفسها – بيتحولوا لمادة ثرية لتحليل الوجدان والمشاعر الإنسانية. إيريس في الفيلم حذرت جوزها قبل مايتجوزوا إنها مش هتقدر تكون اللي هو متوقعه منها وإن هي شخصيًا بتعافر في فهم نفسها اللي كل شوية تتغير وتتحول.

التشكك ده ملازم للفكرة اللي اتكلمنا عليها فوق.. يعني مثلاً الشخص المبدع قد يكون بيمر بموقف مؤلم جدًا ولكن في وسط شعوره بالحزن أو الألم تلاقي برضه جزء منه واقف برّه الموقف خالص قاعد ينقد ويحلل ويسجل وقد يكون الجزء ده متحمس للي بيحصل كمان! الشخص المبدع بيبقى مدرك لوجود الجزء ده وعلشان كده بيتولد عنده نوع من الشعور بالذنب لعدم قدرته على الانخراط التام في مشاعره مع طبعًا التشكك في حقيقية المشاعر دي أصلاً وبالتالي التشكك في نفسه ومصداقيته كإنسان وفنان.
مؤخرًا ابتديت في قراءة The Sandman الرواية المصورة الشهيرة لنيل جايمان Neil Gaiman وفيها جزء خيالي عن شكسبير وابنه هامنت اللي كان بيشتكي إن باباه على الرغم من وجوده معاه إلا إنه دايمًا بعيد وكأنه مش موجود معاهم فعلاً.. كأن وجودهم هي المادة اللي بيستخدمها علشان يخلق قصصه. الجميل إن بعد موت هامنت، جايمان بيصور شكسبير وهو بيعترف إن جزء منه كان متحمس للشعور بالحزن اللي حس بيه بعد موت ابنه.. كأنه وصل فعلاً للشعور اللي الناس قاعدة تتكلم عليه ده وأخيرًا هيعرف يحلله ويستخدمه في قصصه.

المثال متطرف شوية بس بيوضح نوع العزلة اللي بيبقى عايش فيها الفنان. قد تكون العزلة دي هي الضريبة اللي لازم يدفعها الشخص المبدع مقابل خياله ورغبته الجامحة في فهم – والتشكيك في – كل شيء.
فاكرين لما أتكلمنا عن تايريسيس وإن موضوعيته كانت هي لعنته؟ موضوعية تايريسيس واختباره لجميع الحالات الإنسانية حتى المتضاد منها ماتختلفش كتير عن رغبة المبدع في رصد واختبار كل شيء، واللي بتخليه بيبان للأشخاص الآخرين كأنه شخص غريب أو غير موجود أو غير حاضر.
عندي مثال تاني متطرف شوية، وأتمنى مايتخدش بشكل حرفي علشان المرارة. في مهرجان كان Cannes 2011 المخرج حبيبنا ابن المجنونة لارس فون تريير Lars von Trier قال كلمتين اتسببوا في منعه من المهرجان لمدة سبع سنين. فون تريير كان بيتكلم عن أصوله الألمانية اليهودية وإزاي إنه كان يهودي ومابقاش يهودي وإنه لو بص لأصول عيلته هيُعتبر نازي، وقال إنه سعيد بكل ده وبالرغم من إنه ضد الحرب بس هو قادر يتفهم دوافع واحد زي هتلر. طبعًا الكلمتين دول خلوا الدنيا تقوم وتقعد عليه.
أولاً فون تريير مش متحدث لبق خالص ومابيعرفش يعبر عن نفسه إلا من خلال أفلامه.. الكلام هو فاشل فيه جدًا. لما شوفت الفيديو حقيقي صعب عليا مش بس علشان لخفنته في الكلام ولكن علشان محاولته إنه يعبر عن اللي في دماغه في وسط النظرات اللي كانت بترمقه شذرًا وإحساسه بالرفض. بس ممكن الكلمتين اللي قالهم دول يكونوا بيعبروا عن رغبة الفنان في تفهم واختبار كل حاجة حتى لو الحاجة دي هي الشر ذات نفسه وحتى لو النتيجة إنه هيفضل متشاف على إنه إنسان بعيد وغريب. ودي بالظبط الضريبة اللي دفعها تايريسيس مقابل معرفته بالرجل والمرأة، بالحاضر والمستقبل، بالحياة والموت.
في النهاية أحب أُشير لكافكا وقصته القصيرة “A Hunger Artist”.. القصة بتتكلم عن فنان كل عروضه بتتمثل في إنه بيحبس نفسه في قفص ويفضل مجوع نفسه لمدة 40 يوم تقريبًا والناس تقعد رايحة جاية عليه وتتفرج. بعد ما الناس زهقت منه ومن العروض بتاعته نسيوه خالص وهو فضل مكمل في الإضراب عن الطعام في نهاية القصة وهو بيموت جيه واحد سأله أنت ليه بتعمل كده؟ خلاص مفيش حد بيتفرج عليك! الفنان قاله علشان أنا مابمتنعش عن الأكل علشان حد يتفرج عليا.. فالراجل استغرب وقاله طيب ليه ده كله؟ الفنان رد عليه وقاله لأني لحد دلوقتي مالقتش الأكل اللي أقدر أحبه…

ممكن تكون في النهاية رغبة الفنان في رصد واختبار كل شيء ما هي إلا رغبة في مطاردة المُحال وكل ما يعجز الواقع عن تقديمه لصاحب هذا الوجدان المبدع.. لصاحب الخيال.
دول رابطين لقصة كافكا للي حابب يقرأها (بالإنجليزي والعربي):