تايريسيوس والمعرفة الكاملة

النهاردة هنتكلم عن تايريسيوس Tiresias، واحد من أكثر الشخصيات المثيرة للاهتمام في الميثولوجيا الإغريقية وده نظرًا لتكرار ظهوره في العديد من الأساطير ولاختلاف الروايات حول القصة بتاعته ذات نفسه، ولكن أنا شايفة أهميته ترجع لحاجة تانية هنعرفها مع بعض دلوقتي.

نبتدي من الأول..

تايريسيوس هو أشهر عراف في الأساطير الإغريقية ودايمًا الأبطال كانوا بيروحوا له لما يكونوا محتاسين وعايزين يعرفوا مستقبلهم أو أي حاجة غايبة عنهم. بس قبل ما يكون عراف قد الدنيا، تايريسيوس كان شخص عادي جدًا وكان ابن لراعي غنم وحورية من حوريات الإلهة أثينا Athena ومكانش عنده القدرة على معرفة الغيب ولا أي حاجة خالص.

تايريسيوس قبل ما الآلهة تهبه القدرة على رؤية المستقبل حصلت له حادثة ظريفة جدًا لازم نعدي عليها علشان هتلعب دور مهم في مصيره وتكوين شخصيته. في يوم من الأيام، تايريسيوس كان بيتمشى في الأحراش وشاف تعبانين (ثعبانين) – لا مؤاخذة – بيتزاوجوا وأخر انبساط، وبعزيمة داعشية عظيمة راح جاب غصن شجرة وقعد يضرب فيهم لحد ما ماتوا! شيء عبثي جدًا وملهوش أي تفسير الصراحة بس لما هيرا Hera إلهة التزاوج والولادة وزوجة زيوس Zeus شافت اللي حصل عاقبت تايريسيوس عقاب جميل بإنها حولت جنسه من ذكر لأنثى وخلته يعيش كاِمرأة لمدة سبع سنين. خلال السبع سنين دول تايريسيوس أتجوز – أتجوزت بقى – راجل وخلفت منه كمان.

المهم بعد مرور السبع سنين، تايريسيوس رجع ذكر مرة تانية وهنا نيجي بقى لحادثة فقدان بصره.

الرواية الأولى بتقول إن بعد مرور سنين على حادثة التعابين والتحول الجنسي، هيرا وزيوس في مرة اتخانقوا مين بيستمتع بالجنس أكتر، الراجل ولا الست؟ هيرا كانت شايفة إنه الراجل وزيوس كان شايف إنه الست (واضح طبعًا إنهم كانوا بيلقّحوا على بعض بسبب خيانتهم المتكررة لبعض)، فعلشان يحسموا الجدل هيرا استدعت تايريسيوس علشان تعرف رأيه في الموضوع بما إنه الإنسان الوحيد اللي مارس الجنس كرجل وكاِمرأة. تايريسيوس قال لهم إن الست طبعًا هي اللي بتستمتع بالجنس أكتر. هيرا أتكبست لما سمعت كده ومن غضبها سلبت تايريسيوس بصره وخلته أعمى للأبد. زيوس بقى أشفق عليه – الراجل ملهوش ذنب برضه، ده جاي يجاوب سؤال وغطاه وحاجة أنا مالي يا لمبي خالص! – وقرر إنه يعوضه عن فقدان بصره بمنحه القدرة على رؤية المستقبل.

الرواية التانية بتقول إنه في يوم كان بيتمشى في الأحراش برضه وبالصدفة شاف الإلهة أثينا وهي بتستحمى. أثينا لما عرفت إنه شافها عريانة حرمته من بصره. أم تايريسيوس، اللي هي حورية من حوريات أثينا، لما عرفت راحت لأثينا تترجاها ترفع عن ابنها اللعنة وده عيل وغلط ومعلش يا ست الكل. بعد الصعبنيات والمحايلة، أثينا ما رجّعتش لتايريسيوس بصره بس عوضته بمنحه القدرة على التنبؤ وعلى فهم لغة الطيور.

الرواية التالتة بتقول إن تايريسيوس كان مقرب من الآلهة ولما عرفوا إنه بيستخدم معرفته بأسرارهم لمساعدة بني آدم أخدوا منه بصره بس بعد كده منحوه القدرة على رؤية المستقبل علشان يساعد الناس كعراف.

يُقال إن تايريسيوس فضل عايش مئات السنين وعاصر الكثير من الأجيال، ولما مات ونزل مملكة الموتى كان هو البشري الوحيد اللي فضل محتفظ بروحه وعقله وقدراته لدرجة إن في ملحمة الأوديسة البطل أوديسيوس Odysseus بناءً على أوامر من أثينا نزل لتايريسيوس مملكة الموتى علشان يعرف منه مستقبله ويعرف يرجع لبيته إزاي.

زي ما قولنا فوق، تايريسيوس ظهر في أساطير كتيرة. يعني مثلاً بجانب دوره في رحلة أوديسيوس كان ليه دور مهم في أسطورة أوديب Oedipus هنعرفه لما نيجي نتكلم عنها، ولو تفتكروا كمان في أسطورة نارسيس Narcissus كان هو العراف اللي حذر الأب والأم من معرفة طفلهم لنفسه.

اختلاف الروايات حول تايريسيوس جعلت منه شخصية غامضة وتصويرها في الأساطير كان برضه غامض ومتضارب.. شوية راجل وشوية ست، شوية بيشوف وشوية مابيشوفش، شوية حي وشوية ميت بس مش ميت أوي وحاجة أخر لخبطة.

هل اللخبطة اللي حصلت في حياة تايريسيوس دي ليها أي معنى؟ وهل ليها علاقة بجريمته الأولى (قتل التعبانين)؟

أعتقد لازم نرجع لجزء قتل التعبانين ده علشان نفهم أكتر.

التعبان في الحضارة الإغريقية، زيها زي الحضارات القديمة الأخرى، حيوان مقدس وبيتشاف كرمز للألوهية والاستمرارية. وأعتقد إن احنا قبل كده اتكلمنا، مش فاكرة في أنهي ثريد، عن ثعبان الأوروبوروس Ouroboros المقدس اللي دايمًا بيتصور وهو بياكل ديله كرمز للاستمرارية والتجدد والتحام الماضي مع المستقبل. حاجة كمان، التعابين لما بتيجي تتزاوج – وده اللي شافه تايريسيوس – الذكر والأنثي بيلتفوا حوالين بعض في شكل أشبه بالضفيرة.. رمز آخر مقدس للالتحام، ولكن التحام الذكر والأنثى. هل ممكن يكون ده سبب غضب تايريسيوس وقتله للتعبانين؟ إنه شاف فيهم رمز للألوهية واللامحدودية وهو كان ناقم على كل ما هو مقدس مثلاً بسبب إنسانيته المحدودة؟

التفسير ده هيخلي طبيعة عقاب الآلهة له على فعلته منطقية أكتر. إذا افترضنا إن تايريسيوس شاف في التعابين فكرة الـ omnipotence أو المعرفة\القدرة الكاملة، القدرة إني أعرف كل حاجة وإني أكون أي حد وكل حد وأي حاجة وكل حاجة كله مع بعضه، فالآلهة كانت “عقابها” له إنها أديته جزء من القدرة الكاملة دي. حتى ناخد بالنا إن الأسباب الأخرى اللي ذُكرت في الروايات المختلفة واللي بسببها تايريسيوس فقد بصره كلها ليها علاقة بحصول تايريسيوس على معرفة ماكنش المفروض يمتلكها، سواء بإرادته أو من غير. حد ممكن يقول لي بس هو ده كده عقاب إني أديله الحاجة اللي نفسه فيها؟!.. هسيب لكم السؤال ده تفكروا فيه في الأخر.

بتحويله لواحدة ست لمدة سبع سنين، تايريسيوس بقى عنده المعرفة اللي تقدر تجمع بين الذكورة والأنوثة.. وبمنحه القدرة على التنبؤ، تايريسيوس بقى عنده المعرفة اللي تقدر تجمع بين الحاضر والمستقبل. ده غير قدرته على الجمع بين لغة البشر والطيور وبين البصر والبصيرة وبين الحياة والموت. يعني من الأخر تايريسيوس جرّب أو عرف يعني إيه تبقى راجل وست.. يعني إيه تبقى أعمى وبصير.. يعني إيه تبقى حي وميت.. يعني إيه تشوف الحاضر والمستقبل. امتلاك واختبار تايريسيوس لكل المتناقضات دي هي أقرب ما يكون للقدرة الكاملة.

في قصيدة توماس ستيرنز إليوت T. S. Eliot “الأرض الخراب” أو “The Wasteland” شخصية تايريسيوس بتلعب دور الراوي والمتحكم في خطوط القصيدة من غير ما يتكلم عن نفسه غير في جزء واحد بس صغير جدًا. الدكتورة اللي درست لي القصيدة دي كانت بتقولنا إن وجود تايريسيوس في القصيدة عامل زي وجود الإله صاحب القدرة الكاملة.. وجوده محسوس بس مش متشاف. وبدون الدخول في تفاصيل الشعر الحداثي، وجود تايريسيوس في القصيدة كراوي بيحافظ على ترابطها بالرغم اتباعها للشكل المتشرذم اللي اشتهر بيه الأدب الحداثي، والسبب في ده امتلاكه للمعرفة الكاملة وقدرته على الجمع بين أحداث وشخصيات وأساليب قد تبدو غير مرتبطة.

طيب بعيدًا عن الأساطير والشعر، نحاول نقرّب الموضوع شوية وندخل له من مزنق فلسفي..

 مشكلة حياتي الدائمة كإنسانة نكِرة عايشة في فترة زمنية محدودة جدًا بمعارف محدودين وخبرات قليلة مخليني دايمًا متشككة في قدرتي على الموضوعية ومؤمنة إن الموضوعية دي حاجة كده خيال علمي أو قدرة خارقة استحالة أي إنسان هيقدر يوصلها، وشئت أم أبيت هتفضل وجهة نظري ذاتية محدودة حقيرة وبالتالي مليش حق إني أطلق أحكام على أي حد أو أي حاجة. وبعد كده أرجع أسأل نفسي طيب هو أنا ليه عايزة أكون موضوعية أصلاً؟ ويا ترى لو كان عندي القدرة الخارقة على الموضوعية دي كنت هبقى مبسوطة وهقدر فعلاً أطلق الأحكام وضميري مرتاح؟

هنا تحديدًا بقى ممكن نربط بين “عقاب” تايريسيوس ومعضلتنا الوجودية دي. لو افترضنا إن الموضوعية بتتطلب الـ omnipotence أو القدرة الكاملة اللي تايريسيوس قدر يحصل على جزء منها، هل فعلاً ده اللي إحنا عايزينه؟ أو بمعنى أوضح، هنقدر نتعايش مع حاجة زي كده؟ هل نقدر بأجسمنا وعقولنا المحدودة نفهم كل وجهات النظر ونقدّر كل دوافع الناس ونحس بكل الخبرات؟

تخيل كده واحد ومراته اتخانقوا وجابوك حكم بينهم، وأنت عندك القدرة على تفهم دوافع كل واحد فيهم تفهم كامل ورؤية وجهة نظره كإنك أنت الشخص ده بالظبط، يا ترى ساعتها وصولك لحكم هيكون أسهل ولا أصعب؟ والسؤال الأهم هل التفهم التام لجميع الأشخاص ده هيتشاف كشيء محمود؟

أحيانًا الإمعان في الموضوعية قد يؤدي إلى طمس الذات نفسها لأنها بتتشرب كل وجهات النظر إلي بتتعرض لها والنتيجة بتكون شخصية مُبهمة بلا ملامح زي تايريسيوس كده.. مش عارفين ده بيشوف ولا مابيشوفش ولا صاحي ولا ميت.. إلخ.

بس برضه مش يمكن طمس الذات ده يكون أول علامات تحول تايريسيوس للألوهية (زي الدور اللي بيلعبه في قصيدة إليوت)؟ مش يمكن تايريسيوس اللي قتل التعابين هو هو تايريسيوس اللي قاعد في مملكة الموتى؟ إدراك واحد بلا وقت محدد؟ حلقة واحدة.. تعبان واحد هيفضل يأكل في ديله للأبد.

تمت (الجزء الأخير ده فيه إحالة واضحة لقصة “البيضة” ومش عارفة إيه اللي وداني هناك والمواضيع دخلت في بعضها كده إزاي).


رأي واحد حول “تايريسيوس والمعرفة الكاملة

اترك رد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s