ثيسيوس وأريادني ومواجهة المينوتور

أسطورة النهاردة بحبها جدًا وكنت وعدت إني هحكيها وأنا بتكلم عن أسطورة إيجيوس Aegeus قبل كده على الرغم من إنها كل مرة بتوقعني في حفرة من الحزن.

النهاردة هنتكلم عن ثيسيوس وأريادني Theseus and Ariadne.

لو تفتكروا إيجيوس كان ملك مدينة أثينا Athens وحصل إنه خلف ولد من واحدة غير مراته وسابها ومشي، وبعد كده الولد ده رجع علشان إيجيوس يعترف بيه بس ميديا Medea الحيزبونة – زوجة إيجيوس وقتها – كانت عايزة تتخلص منه والولد كان عايز يثبت نفسه وشجاعته فقرر يتطوع إنه يقتل المينوتور Minotaur الشهير في مدينة كريت Crete.. طبعًا الولد ده هو البطل الإغريقي اللي اسمه هيُخلد بعد كده ثيسيوس.

أعتقد محتاجين شوية سياق للموضع.

في الوقت ده أثينا وكريت كانوا واقعين مع بعض وبينهم مشاكل وحروب بسبب إن ابن ملك كريت مات في أثينا وهو بيلعب في دورة أوليمبية هناك ولا ماعرفش كان بيهبب إيه على عينه. المهم، بعد الحروب اللي استمرت سنين، إيجيوس ومينوس Minos – ملك كريت – اتفقوا على عقد هدنة بين المدينتين بتنص على إن إيجيوس مُلزم يبعت لمينوس كل سنة سبعة ولاد وسبع بنات من خيرة شباب أثينا علشان يرميهم في المتاهة الشهيرة في كريت كطعام للمينوتور.

طيب هو مين أو إيه المينوتور ده؟ المينوتور كان وحش نصفه السفلي إنسان ونصفه العلوي تور (ثور بالفصحى يعني). اللي حصل إن إله البحر بوسيدون Poseidon أهدى للملك مينوس تور جميل جدًا وطلب منه إنه يضحي بيه، بس مينوس كان مبهور بالتور السماوي ده وقرر يحتفظ بيه ويضحى بأي تور غلبان تاني. فبوسيدون لما عرف عاقب مينوس بإنه حط في مراته رغبة تجاه التور السماوي ده! فمراته مابقتش قادرة تقاوم جمال التور لدرجة إنها راحت نامت معاه – ايوه مع التور – والنتيجة إنها خلفت منه وحش نصفه إنسان ونصفه تور: المينوتور. مينوس علشان يداري العملة السودا دي طلب من المهندس العظيم ديدالوس Daedalus وابنه إيكاروس Icarus (هو بعينه اللي عمل أجنحة من الشمع وساحت لما قرب من الشمس.. الأساطير الإغريقية أوضة وصالة) إنهم يبنوا له متاهة ضخمة ومعقدة لدرجة إن اللي يدخل فيها مايعرفش يخرج منها تاني أبدًا. وفعلاً بعد ما خلصوا المتاهة، مينوس رمى فيها المينوتور وبقى يجيب له فيها أضحية بشرية يتغذى عليها.

نرجع بقى لثيسيوس اللي كان عايز يثبت لإيجيوس والحيزبونة ميديا إنه فعلاً بطل الأبطال وأنا ابن أثينا أنا ضد الكسر، فطلب من والده إيجيوس إنه يبعته مع الشباب اللي هيروحوا كريت كأضحية للمينوتور علشان يموته ويضع حد للشرط البشع ده من الهدنة بين أثينا وكريت. إيجيوس في الأول رفض بس أضطر في الأخر يوافق بعد إصرار ثيسيوس الشديد.

أول ما ثيسيوس راح كريت أريادني بنت الملك مينوس وقعت في حبه وهو كمان حبها فقررت تساعده علشان يقدر يدخل المتاهة يقتل المينوتور ويخرج تاني من غير ما يتوه جواها. أريادني أدت لثيسيوس بكرة خيط كبيرة علشان يربط طرفها عند مدخل المتاهة وبكده مهما أتعمق جواها هيعرف يمشي ورا خيط البكرة ويرجع من نفس الطريق اللي مشي فيه من غير ما يتوه. ده بجانب إنها أدته خريطة بدائية كده للمتاهة كانت واخداها من ديدالوس بنفسه. وقبل ما يدخل المتاهة بيوم، الاتنين اتفقوا إن بعد ما ثيسيوس يقتل المينوتور ويخرج هياخد أريادني معاه لأثينا – من ورا مينوس طبعًا – علشان يتجوزها.

ثيسيوس دخل المتاهة وقتل المينوتور (يُقال إنه قتله بسيف أريادني كانت مدياهوله برضه وفي أقوال أخرى هو كان جاي بالسيف بتاعه اللي هو سيف إيجيوس أصلاً) وبفضل بكرة الخيط بتاعت أريادني عرف يخرج من المتاهة المرعبة بسهولة. أريادني هربت فعلاً مع ثيسيوس، بس في طريقة عودتهم لأثينا ثيسيوس ركن السفينة بتاعته عند جزيرة مهجورة علشان هو واللي معاه ينزلوا يأكلوا ويستريحوا، وأريادني نزلت معاهم وقررت تنام على الجزيرة شوية.

أريادني صحيت من النوم مالقتش لا السفينة ولا ثيسيوس، ولكسرة قلبها اكتشفت إن ثيسيوس أخلى بوعده معاها وسابها على الجزيرة لوحدها ولا كأنه بيسرب قطة المعفن! طبعًا المسكينة مابقتش مصدقة خيانة ثيسيوس ليها وقعدت تندب حظها وافتكرت إنها خلاص هتموت على الجزيرة لوحدها لحد ما شافها ديونيسيوس Dionysius إله الخمر والسكر والعربدة والشخلعة ووقع في حبها، ولما عرف قصتها كمان قرر يتجوزها ورفعها لجبل الأوليمب لتكون واحدة من الآلهة.

طبيعي لأول وهلة نسب ونلعن في ثيسيوس على الموقف الزبالة اللي عمله مع البنت اللي حبته وأنقذت حياته، بس أعتقد لازم نسأل نفسنا الأول هو ممكن يكون عمل كده ليه؟ كان بيضحك عليها ده كله واستغلها ولما بقت عبء عليه قرر يتخلص منها؟ ممكن جدًا، الأساطير مابتقولناش إيه اللي بيدور في دماغ أبطالها، بس ده دورنا احنا.

طيب، تعالوا نتقمص شخصية ثيسيوس لدقايق كده ونحاول نفهم هو ليه تطوع لقتل المينوتور أصلاً. لو رجعنا لأسطورة إيجيوس، وزي ما قولت في الأول، هنعرف إن ثيسيوس مش ابن الملك إيجيوس الشرعي وإن الموضوع ده غالبًا محسسه بالنقص حتى بعد اعتراف والده بيه وعلشان كده كان بيحاول يُقدم على أي عمل بطولي يثبت بيه جدارته لكل اللي حواليه، أو لنفسه قبل أي حد.

اشمعنى قتل المينوتور كان الفرصة المناسبة لثيسيوس إنه يتخلص من شعوره بالنقص؟ المينوتور هو ابن زوجة الملك مينوس.. يعني المينوتور كمان ابن غير شرعي للملكة. ثيسيوس والمينوتور الاتنين أماهتهم خلفوهم من الزنا وعلشان كده الاتنين متشابهين في حملهم لعقدة النقص والذنب، وعلشان كده برضه ثيسيوس شاف في المينوتور انعكاس لعقدته هو.. كرهه لذاته متجسد في شكل وحش، وكأن الشكل المشوه للمينوتور ده هو إسقاط على الصورة اللي ثيسيوس شايف بيها نفسه، الصورة اللي كان عايز يدمرها علشان يتخلص من ألمه وكرهه لذاته.

أما المتاهة فهي رمز واضح جدًا لنفس ثيسيوس. ثيسيوس علشان يتخلص من عقدته والصورة المشوهة دي عن نفسه كان لازم يغطس في متاهة نفسه وعقله اللاواعي وده اللي قدر يعمله بمساعدة أريادني. ناخد بالنا إن أريادني كان ممكن جدًا تدخل المتاهة مع ثيسيوس وتمسك له هي بكرة الخيط وتفكها وهي معاه، بس ده ماحصلش لأن المتاهة هي نفس ثيسيوس اللي ماينفعش حد يدخلها أو يفهمها غيره مهما كان بيحبه، فكل اللي قدرت تعمله إنها دلته على الطريق ووقفت تستناه بره.

أنا شايفة إن أريادني حبت ثيسيوس فعلاً ورغبتها في مساعدته للتخلص من أشباحه وعقده كانت صادقة بدليل إنها عملت كل حاجة ممكن تتعمل علشان تضمن إنه مش هيتوه جوه وهيخرج سليم. دايمًا مساعدتنا للأشخاص اللي بنحبهم ليها حدود لأن في مرحلة ما لازم هما اللي يدخلوا المتاهة بنفسهم، وكل اللي نقدر نعمله إننا نديهم بكرة الخيط.. الأمل والحب اللي هيتعلقوا بيه علشان يعرفوا يخرجوا تاني. مهما الخيط طول ومهما هما بعدوا عننا هنفضل إحنا عند طرف الخيط اللي بيمدهم بالطاقة والحب. كنت قرأت مرة لحد بيتكلم عن الأسطورة دي وشبّه بكرة الخيط اللي أريادني أدتها لثيسيوس بالحبل السري اللي زي ما الجنين بيتخلص من خلاله من فضلاته وبينقلها للأم فهو بيوصل كل المواد الغذائية من الأم للجنين علشان يقدر يعيش. التشبيه كان غريب شوية بس لخص حب أريادني لثيسيوس في الوقت اللي هو كان فيه في ظلمة متاهته.

طيب ليه ثيسيوس يقابل كل الحب ده بالغدر والخيانة؟ هل دخوله المتاهة والخروج منها غيّره؟ طبيعي لو مشينا على التفسير اللي فوق هنقول إنه نجح في قتل أشباحه والتخلص من ذنبه بقتله للمينوتور والمفروض ده يخليه يخرج من المتاهة إنسان أحسن حابب نفسه واللي حواليه. بس مين قال إن قتله للمينوتور كان هو الحل؟ أصل لو المتاهة هي فعلاً نفس ثيسيوس، يبقى المينوتور برغم وحشيته وبشاعته جزء لا يتجزأ منها، وبقتله للمينوتور ثيسيوس قتل جزء من نفسه بدل ما يتصالح معاه. الفكرة إن ثيسيوس – أوالمينوتور – ملهوش ذنب في إحساسه بالنقص أو كونه أتولد ابن غير شرعي.. دي حقيقة كان لازم يتصالح معاها ويجردها من بشاعتها مش يقتلها ويتخلص من وجودها للأبد. الموضوع عامل زي ما يكون واحد عنده صداع فبدل ما يروح للدكتور يكشف ويفهم الألم سببه إيه علشان يعالجه، جاب بلطة وضرب بيها دماغه!

على عكس ما تبدو الأسطورة، ثيسيوس ماخرجش من المتاهة منتصر. ثيسيوس خرج بعد ما فقد جزء من نفسه جوه، وقد يكون ده السبب اللي علشانه هجر أريادني على الجزيرة.. هي حبت ثيسيوس لكن اللي خرج من المتاهة ثيسيوس آخر غير قادر على الحب. وعلشان كده برضه في رحلة عودته لأثينا أنغمس في شرب الخمر لدرجة إنه نسي يغير شراع السفينة زي ما كان متفق مع والده، فأيجيوس أفتكر إنه ابنه مات فرمى نفسه في المياه.

بشراع أو من غير، قد يكون إيجيوس حس إن ابنه مات فعلاً.

فيه روايات تانية للأسطورة بتقول إن ديونيسيوس – وفي روايات أخرى أثينا – ظهر بنفسه لثيسيوس وأمره بهجر أريادني على الجزيرة، وقد يكون ده إشارة لإحساسه اللاواعي بعدم استحقاقه لحب أريادني.

قد إيه الموضوع حزين لأن الأشخاص اللي بيتألموا أو اللي بيفشلوا في التصالح مع أنفسهم بيبانوا عديمي الإحساس غير قادرين على الحب وبيعملوا كل حاجة علشان يطفشوا الناس من حواليهم (هجر أريادني، انتحار إيجيوس) علشان يداروا على ضعفهم وكرههم للمينوتور.

بقتله للمينوتور، ثيسيوس حبس نفسه جوه المتاهة للأبد حتى لو ماديًا قدر يخرج منها. وبرحيل أريادني وبكرة الخيط، مفيش حد هيقدر يساعده يلاقي طريق الخروج غير نفسه.

في النهاية أحب أدعوكم للاستماع للأغنية العظيمة دي اللي بتحكي الأسطورة من وجهة نظر ثيسيوس واللي عرفني عليها صديق البرنامج مايكل:

Asaf Avidan – The Labyrinth Song

دي كلمات الأغنية للي عايز يخرط بصل على قلبه ويشوف إن إزاي ثيسيوس بيطلب من أريادني تسامحه إنه مش عارف يخلص نفسه من متاهته.


3 آراء حول “ثيسيوس وأريادني ومواجهة المينوتور

اترك رد