النهاردة هنتكلم عن سفينة ثيسيوس The Ship of Theseus..

سفينة ثيسيوس مش أسطورة ولكن هي تجربة فلسفية فكرية قديمة جدًا مبنية على أسطورة ثيسيوس الإغريقية وتناولها الفلاسفة على مر العصور بأشكال مختلفة.
ثيسيوس لو تفتكروا هو ابن إيجيوس Aegeus اللي اتكلمنا عليه قبل كده اللي راح قتل المينوتور ورجع ونسي يغير أشرعة سفينته فإيجيوس افتكره مات فانتحر.. فاكرين؟ لو مش فاكرين مش مشكلة لأن ده مش موضوعنا دلوقتي. المهم إن ثيسيوس من أشهر أبطال الأساطير الإغريقية ويُقال إنه من أهم مؤسسي مدينة أثينا.
التجربة الفلسفية الإفتراضية بتقول إن بعد موت ثيسيوس أهل أثينا قرروا يحتفظوا بالسفينة بتاعته في متحف تخليدًا لذكراه وللحروب والمعارك اللي خاضها، وبمرور الوقت ألواح السفينة ابتدت تقدم وتتهاوى، فكان كل ما لوح يقدم القائمين على المتحف يشيلوه ويحطوا مكانه واحد جديد علشان يحافظوا على السفينة. الأسئلة اللي بتطرحها التجربة هي: هل السفينة كده هتفقد قيمتها؟ هل ينفع أصلاً إطلاق اسم “سفينة ثيسيوس” على السفينة المُرممة؟ وبعد تغيير كام لوح بالظبط هتفقد السفينة هويتها كسفينة ثيسيوس؟
الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز Thomas Hobbes جيه وقرر يعقّد لنا الدنيا أكتر وأكتر. هوبز قال فلنفترض إن كان فيه شخص بياخد كل الألواح القديمة بتاعت السفينة اللي بيتم استبدالها بألواح جديدة وبنى بيها سفينة تانية الخالق الناطق سفينة ثيسيوس.. كده أي من السفينتين هتبقى هي فعلاً “سفينة ثيسيوس”؟ السفينة اللي مبنية حديثًا من الألواح القديمة ولا السفينة القديمة التي تم ترميمها واستبدالها بالكامل بألواح جديدة؟
على مر العصور الفلاسفة قعدوا يهروا وينكتوا في نفسهم علشان يحلوا المعضلة دي.. اللي يقولك لأ طبعًا السفينة اللي معمولة من الألواح القديمة هي سفينة ثيسيوس لأن هوية الشيء بتعتمد على الأجزاء المكونة له، واللي يقولك السفينة المُرممة هي سفينة ثيسيوس لأن هوية الشيء بتعتمد على القيمة اللي بنديها له، واللي يقولك السفينتين بيحملوا هوية سفينة ثيسيوس ولكن في بُعدين مختلفين، واللي يقولك الاتنين مش سفينة ثيسيوس أصلاً لأن وجود السفينة المعنوي متعلق بزمان ومكان معين فُقد خلاص.
الفيلسوف اليوناني هرقليطس Heraclitus ومن بعده أرسطو Aristotle اتكلموا عن الموضوع ده باستفاضة وحاولوا يفهموا على أي أساس بننسب للشيء هوية ما. أرسطو مثلاً بيقول لنا إن ماهية الشيء بتعتمد على أربعة عوامل: العامل المادي material cause والعامل البنائي formal cause والعامل الفعال efficient cause والعامل النهائي final cause . ببساطة شديدة، العامل المادي هو المادة اللي معمول منها الشيء، العامل البنائي هو تصميم أو شكل الشيء، العامل الفعال هو القوى اللي ساعدت في خلق الشيء، وأخيرًا العامل النهائي هو الغرض اللي من أجله الشيء أتعمل. لوطبقنا ده على الكرسي اللي أنت قاعد عليه دلوقتي.. ممكن نقول إن ماهيته كالكرسي ده تحديدًا بتعتمد على الخشب\المعدن اللي مصنوع منه (العامل المادي) وعلى شكله عامل إزاي (العامل البنائي) وعلى الشخص اللي صممه وكل الأدوات التي استُخدمت في صناعته (العامل الفعال) وأخيرًا على الغرض اللي أنت على أساسه اشتريت الكرسي.. هل هو كرسي للمذاكرة ولا للنوم ولا للسفرة.. إلخ (العامل النهائي).
أرسطو بقى بيقول إن أهم عامل من دول واللي على أساسه جزء كبير من ماهية الشيء بتتحدد هو العامل البنائي أو شكل الشيء، وهنا بيستعين بمثال وضعه هرقليطس عن نهر. هرقليطس بيقول إن النهر هيفضل نهر حتى لو اتغير العامل المادي.. يعني لو جري فيه عصير قصب بدل المياه هيفضل برضه نهر (طبعًا الراجل ماقالش عصير قصب.. أنا بجوّد)، وبرضه النهر هيفضل نهر حتى لو اتغير العامل النهائي والناس استخدمته لأغراض مختلفة، الحاجة الأساسية اللي بتخلينا نقول على النهر نهر هو شكله أو تصميمه اللي لو أتغير هنقول عليه بحيرة أو جدول.. إلخ. أرسطو بيستخدم المثال ده وبيطبقوا على سفينة ثيسيوس علشان يوصل لأن السفينة المُرممة اللي في المتحف مش هتفقد هويتها وهتفضل سفينة ثيسيوس وده لأن العامل البنائي بيفضل زي ما هو حتى مع تغير العامل المادي أو المادة المصنوعة منها ألواح السفينة.
الحقيقي وجهة نظر هرقلطيس وأرسطو ضعيفة ويمكن تطبيقها فقط على أشياء مادية معينة ولو اتكلمنا على نطاق أوسع شوية النظرية مش هتصمد معانا، يعني مثلاً لو شركة غيرت نشاطها وإدارتها بس احتفظت بنفس الاسم هل كده تعتبر نفس الشركة؟ طيب لو احتفظت بالنشاط بس غيرت الإدارة والاسم هل كده بقت شركة تانية؟ وإيه أصلاُ هيبقى العامل المادي والعامل البنائي في الحالة دي ؟
المهم بقى إن الفلاسفة في العصر الحديث عند تطرقهم لمعضلة سفينة ثيسيوس ماتوقفوش عند ماهية الأشياء واستخدموا السفينة كمجاز لمحاولة فهم مفهوم “الهوية” عند الإنسان.. وهنا تبدأ اللعبكة الحقيقية.
أكيد سألت نفسك في يوم إيه اللي بيخلي أنا أنا؟ يعني هل هويتي أو معرفتي لذاتي معتمدة على شكلي؟ ولا على أعضائي (قلبي ومخي وكليتي وكبدتي وفشتي.. إلخ)؟ ولا على أفكاري؟ ولا على ذكرياتي؟ ولا على مشاعري؟ ولا على أفعالي؟ طيب لو حاجة من دول اتغيرت هل كده أنا هفقد هويتي؟ طيب لو كلهم اتغيروا؟ هل هتعامل مع نفسي والآخرين هيتعاملوا معايا على إني شخص آخر؟
على سبيل المثال، دلوقتي أنت بعد الشر عملت حادثة واضطريت بعدها تعمل عمليات تجميل كتيرة غيرت من شكل وشك وجسمك تمامًا، هل هتفضل محتفظ بنفس هويتك؟ أكيد ايوه، وده معناه إن شكلنا مش هو الحاجة اللي بتحدد هويتنا.
طيب مثال تاني، دلوقتي أنت بعد الشر عملت نفس ذات الحادثة تاني واضطريت بعدها تركب قلب غير قلبك أو كلية غير كليتك، هل هتفضل محتفظ بهويتك ولا هتقول خلاص أنا بقيت حد تاني؟ غالبًا هتفضل محتفظ بهويتك عادي خالص وده معناه إن مش أعضائنا هي اللي بتحدد هويتنا. فيه فيلم شوفته من زمان كده أعتقد اسمه Repo Men قصته بتدور في المستقبل وبتقول إن الإنسان هيبقى عنده القدرة إنه يستبدل أي عضو من أعضاء جسمه بعضو صناعي، فهل ساعتها هيفضل نفس الشخص ولا لأ؟ وبعد استبدال كام عضو تحديدًا هنبتدي نعتبره شخص آخر؟
طيب مثال تالت، دلوقتي أنت وقعت على دماغك وفقدت الذاكرة، هل هتفقد هويتك والناس هتتعامل معاك على إنك أشرف مش هاني؟ على الرغم إن الموضوع هسيببلك أزمة هوية بس هتفضل في نظر الناس اللي حواليك والدنيا كلها هاني مش أشرف حتى لو أنت شخصيًا نسيت إنك هاني، وده معناه إن ذكرياتنا مش هي الحاجة اللي بتحدد هويتنا.
وبعيدًا عن الأمثلة الخزعبلية، أنت لو جبت صورة لنفسك وأنت صغير وصورة لنفسك دلوقتي وقارنت بين الشخصين.. هتلاقي الشكل اتغير جدًا وممكن لدرجة يصعب بيها ربط الصورتين ببعض أصلاً، هتلاقي إن أفكارك ومبادئك اتغيرت تغير جذري ومشاعرك تجاه الحاجات اللي بتحبها والحاجات اللي مابتحبهاش هي كمان اتغيرت.. حتى أحلامك وأهدافك.. كل حاجة! ليه ساعتها على الرغم من كل الاختلافات دي بتفضل رابط بين الشخص اللي في الصورة الأولانية والشخص اللي في الصورة التانية؟ ليه بتفضل أنت أنت في نظر نفسك واللي حواليك؟
الحقيقة إن الموضوع ده مؤرقني طول عمري ومعطل تطوري الوجودي البائس.. يعني مثلاً كل مرة مشاعري تجاه أشخاص أو حاجات – مهمة أو تافهة بس كنت معتبراها من ركائز شخصيتي – تتغير بخاف جدًا وبحس إن جزء مني طار (أو ماكنش موجود أصلاً) وإن فكرتي عن نفسي اللي بتكلم عنها بكل ثقة دي مش حاجة ثابتة وإني كل ما أحاول أمسك فكرة ما عن أنا مين بالظبط تتزفلط من إيدي. وعلشان كده برضه بستغرب الناس اللي بتتكلم بكل ثقة عن نفسها وعن أفكارها ومبادئها ومشاعرها وأحلامها كأنها محفورة في الصخر مش ألواح خشب عطنة ممكن تتهاوى وتتغير في أي وقت.
فيه أستاذ في علوم الحاسبات اسمه نوسون يانوفسكي Noson Yanofsky كتب مقال جميل جدًا عن معضلة سفينة ثيسيوس الفلسفية وربطها بأزمة الهوية في الوجود الإنساني. يانوفسكي بيطرح أسئلة شبيهة باللي إحنا تطرقنا ليها فوق وفي الأخر بيقول إن المعضلة ملهاش حل لأننا بنتناولها بشكل غلط أصلاً.. يعني المفروض مانسألش هي دي سفينة ثيسيوس ولا لأ لأن معندناش تعريف محدد مُتفق عليه لإيه هي سفينة ثسيسوس، اللي عندنا معطيات غير موضوعية عن السفينة بتختلف بشكل كبير من شخص لآخر.. واحد شايفها على إنها أسطورة وواحد شايفها على إنها شوية خشب وواحد شايفها على إنها قيمة تاريخية وواحد شايفها على إنها شكل جمالي حلو.. إلخ.
يانوفسكي بيطبق الفكرة دي على هوية الإنسان وبيقول إن ملهاش تعريف أو إطار محدد في العالم الخارجي اللي كلنا مشتركين فيه وبالتالي استحالة نتفق على تعريفها ومكوناتها. بيقول ببساطة إن الهوية لا تنبع من ذات الفرد ولا برضه هي محفورة في العالم الخارجي.. أومال هي إيه يا عم يانوفسكي؟!
هويتنا أو إدراكنا لنفسنا بينبع من انطباعات الآخرين الذاتية عنا، أو مجموع الصور الذهنية اللي شايفنا بيها كل شخص يعرفنا.. هويتنا ببساطة هي مجمل الانطباعات دي. يعني أنت وجودك كأشرف أو هاني ملهوش معنى من غير ما يكون كل اللي حواليك شايفينك كأشرف أو هاني.. كل واحد منهم رؤيته ليك جزء من ال jigsaw puzzle اللي بيكون هويتك.
سفينة ثيسيوس (هويتنا) وهم، مش بس علشان هي أسطورة ولكن علشان ملهاش معنى\وجود ثابت متأصل وكينونتها هتفضل تتغير بتغير الناس اللي بتبص عليها.
شكراً لحضرتِك ، استفدت من المقال جداً
إعجابإعجاب
ده شيء يسعدني 🙂
إعجابإعجاب