ثاناتوس والموت.. والحياة

النهاردة هنتكلم عن ثاناتوس.. أو الموت.

ثاناتوس Thanatos في الأساطير الإغريقية هو إله الموت، وده مختلف عن هيدز (أو هاديس) Hades إله العالم السفلي، بمعنى آخر ثاناتوس كان بيقبض الروح وينزلها لهيدز في عالم الموتى.

ثاناتوس قليل الظهور في الأساطير الإغريقية وده يوضح إنه كان إله غلبان مش بتاع مشاكل، يعني جات سيرته في الإلياذة عند موت ساربيدون Sarpedon اللي هنتكلم عنه دلوقتي، وأتذكر مرة كمان في أسطورة ألكيستيس Alcestis (هنحكيها مرة تانية)، وطبعًا الدور اللي لعبه في أسطورة سيزيف Sisyphus الشهيرة اللي أتكلمنا عليها قبل كده وإزاي إن سيزيف خدعه مما تسبب في عقابه الأبدي الشهير.

في علم النفس ثاناتوس دائمًا بيُذكر بالمقارنة مع إيروس Eros إله الحب الغريزي وده يرجع للنظرية اللي حطها فرويد وكملها تلاميذه بخصوص الغرائز المتحكمة في الطبيعة البشرية. النظرية دي بتقول لنا إن دوافع الإنسان وأفعاله كلها يمكن تصنيفها لغريزتين متقابلتين: غريزة البقاء وغريزة الفناء. غريزة البقاء أُطلق عليها اسم إيروس ويندرج تحتها كل الأفعال اللي بتضمن استمرارية الإنسان زي الأكل والحب والجنس.. إلخ، وغريزة الفناء أُطلق عليها اسم ثاناتوس ويندرج تحتها كل الأفعال اللي بتؤدي إلى فناء الإنسان زي العنف وإيذاء النفس والغير والانتحار.. إلخ. وفقًا للنظرية دي، المفروض إن الغريزتين في صراع دائم داخل النفس البشرية، فانتصار إيروس معناه استمرارية الإنسان وانتصار ثاناتوس معناه فناءه.

ممكن حد يسأل طيب ليه كلنا جوانا غريزة الموت أو الرغبة في تدمير الذات مع إنها ماشية ضد فكرة الوجود أصلاً؟ ليها نعتبرها حاجة طبيعية موجودة فينا كلنا؟

أولاً، الإنسان مكانش هيفهم يعني إيه حياة واستمرارية إلا بوجود فكرة الموت والفناء.. الإنسان لو كان كائن خالد مكانش هيفكر أصلاً في موضوع الاستمرارية ده ولا هيجي على باله ولا هيفهم فكرة “الحياة”، وبالمثل الإنسان لو كان فضل عدم.. مجرد لا شيء.. برضه مكانش هيفهم يعني إيه فناء وإيه الموت ده أصلاً. وبالتالي فوجود الغريزتين بيضمن إدراك الإنسان لوقوعه بين قوتين بيحددوا وجدانه وطريقة رؤيته لنفسه وللكون من حوله.

ثانيًا، ماينفعش نفكر في الحياة والموت على إنهم نقيضين أو غريزتين قاعدين يتخانقوا جوانا طول الوقت لأن أحيانًا الموضوع مابيبقاش بالوضوح ده والخطوط بتتداخل. أحيانًا الرغبة في تدمير الذات أو الغير بتبقى هدفها الاستمرارية والتأكيد على الحياة. ممكن أم تضحي بحياتها علشان تضمن إن ولادها هيعيشوا أو واحد يدمر مدينة بأهلها علشان يضمن استمرارية شعبه أو واحد يمارس رياضات خطيرة علشان يحس بنشوة الحياة. والعكس صحيح، استمرارنا كلنا في الحياة على الرغم من إدراكنا إن الإمعان فيها، سواء بالجهد أو الوقت، هو نوع من التأكيد على حتمية الموت والاتجاه نحوه.

من الأسباب اللي برضه بتخلينا نشوف الحياة والموت على إنهم نقيضين هو إننا بنفكر فيهم بشكل وجود وغياب، وفي الوعي الجمعي الإنساني الوجود هو شيء إيجابي، في حين إن الغياب شيء سلبي (مع إن مش بالضرورة يعني لو فكرنا فيها)، وعلشان كده ومن قديم الأزل الإنسان بيشوف الفناء على إنه حاجة سلبية.

نسيب الفكرة دي تستوي شوية ونرجع لثاناتوس.

ثاناتوس كان بيتم تصويره زمان على إنه راجل ابن حلال بدقن وأجنحة كده وفي أحيان أخرى كان بيرسموه على شكل شاب صغير وسيم بأجنحة برضه. ثاناتوس مكانش بيشتغل لوحده ويقال إن له أخوات أشرار اسمهم الكيريس Keres ودول كانت وظيفتهم قبض أرواح الناس اللي بيموتوا موتات عنيفة خصوصًا في الحروب.. معنى كده إن الإغريق مكانوش شايفين إن الموت كله شر أو حاجة سلبية وإن الموضوع بيعتمد أكتر على إزاي وليه الإنسان مات. ده غير إن ثاناتوس له أخ توأم اسمه هيبنوس Hypnos أو النوم، وده ممكن نربطه بالمعتقدات الدينية والروحانية اللي بتشوف النوم على علاقة وثيقة بالموت أو كأنه الموتى الصغرى، وبالتالي فالموت زي النوم نوع من أنواع الرحمة والراحة.

في الإلياذة بيُحكى إن أثناء حرب طروادة ساربيدون ابن زيوس اتقتل وكان معروف عنه الشهامة وهو بيدافع عن الطرواديين. المهم إن حصل تنازع على جثته، بين الإغريق وأهل طروادة، وعلى روحه، بين الكيريس وثاناتوس، لدرجة إن أبولو تدخل وأخد الجثة وأداها لثاناتوس وأخوه هيبنوس علشان ياخدوه مكان بعيد عن الهري ده كله.. وفعلاً بكل سلام ثاناتوس وهيبنوس بيحملوا جثة وروح البطل ساربيدون بعيدًا عن الأرض والحرب والصراع.. بعيدًا عن الحياة.

في عصرنا الحديث ثاناتوس هو أصل مصطلح طبي مثير للجدل: Euthanasia أو الموت الرحيم، وده مصطلح بيُطلق على الحالات اللي بيتم فيها إنهاء حياة المرضى الميؤوس منهم لوضع حد لمعانتهم. بغض النظر عن الجدل الدائر حول الموضوع نفسه وسواء دي حاجة صح ولا غلط، فكرة الموت الرحيم نفسها والظروف المحيطة بها أكبر دليل على تداخل مفهوم الحياة والموت والخير والشر والرحمة والقسوة وإن الخطوط الدينية والأخلاقية اللي بعض الناس حاطاها بحديد مسلح دي مش بالوضوح زي ما هم فاكرين.

فيه مقال عظيم قرأته من سنتين تقريبًا اسمه “The Cyclops Child” الدكتور اللي كتبه بيحكي عن موقف حصل له وهو لسه دكتور صغير في مستشفى كاثوليكية. الدكتور بيقول إن فيه ست خلفت طفل بعيب خلقي معروف بال cyclops baby فيه إن الطفل بيبقى مولود بعين واحدة وتشوهات أخرى وفي أغلب الأوقات بيتولد ميت أو بيموت خلال ساعات من الولادة. المهم إن الطفل اللي أتولد ده كان عنده عين واحد وكان عنده صباع زيادة في أيده، ده غير إن المريء والقصبة الهوائية كانوا مفتوحين على بعض وبالتالي مكانش ينفع يأكلوه أصلاً، فحتى لو ماماتش لوحده هيموت من الجوع. المهم إن الطفل ماماتش وفضل عايش يوم واتنين وكان طبعًا بيعيط عياط هستيري طول الوقت علشان جعان والممرضات كانوا بيحاولوا يشيلوه ويهدوه لكن مفيش فايدة. الحالة دي كانت تاعبة الدكتور نفسيًا لأنه حاسس إن الرضيع بيتعذب علشان جعان وفي نفس الوقت هو مش قادر يخفف عنه ففكر إنه يخنقه من غير ما حد ياخد باله، بس برضه ضميره منعه لأن فكرة الموت\القتل متأصلة جواه أخلاقيًا، زيه زي بقية البشر، على إنها حاجة وحشة ومش من حق أي حد يمارسها أو يحدد جدواها، ده غير إن خنق الرضيع برضه هيتسبب له في ألم حتى لو لحظي.

على الرغم من أن المقال بيتناول مفهوم الموت الرحيم من منظور أخلاقي إلا إنه بيوضح لنا العلاقة المكعبلة بين الحياة والموت. الرضيع كان بيعيط علشان جعان مدفوعًا بغريزة الحياة اللي جواه.. هل في الحالة دي نصنفها كغريزة حياة ولا فناء أصلاً؟ وهل يمكن في الحالة دي إننا نفكر في الموت على إنه “غياب الحياة”؟ هل يمكن تصنيف الوجود اللي كان فيه الرضيع ده على إنه “حياة” وإن الحالة اللي كان فيها قبل وبعد على إنها “فناء”؟ هل رغبتنا في إنهاء معاناة الرضيع هي انعكاس لغريزة الحياة جوانا المرتبطة بالمتعة؟ هل الطفل ده لو كان له حرية اتخاذ القرار كان هيموت نفسه بالامتناع عن الأكل (غريزة الموت) ولا بالاستغراق في الأكل (غريزة الحياة)؟ إزاي نقول إن الاتنين بينهم تناقض وهم ليهم نفس النتيجة؟

أنا مش بسأل الأسئلة دي علشان أبرر الموت الرحيم أو الانتحار، ده مش موضوعنا أصلاً، أنا عايزانا بس نفكر أكتر في نظرتنا للحياة والموت وإن محدودية إدراكنا حولت الموت لنقيض الحياة.. لو شايفين الحياة وجود، يبقى الموت غياب، لو شايفين الحياة وقتية، يبقى الموت أبدي. طبعًا ده متفهم علشان علاقتنا بالموت بنستمدها بشكل رئيسي من غياب الآخرين بينما إحنا لسه متلغوصين في الحياة (اللي برضه بنختبرها بشكل ذاتي بحت!).. وده معناه إن فكرتنا منقوصة وغير مكتملة عن الاتنين. في حين إن الموضوع أكبر من كده والتشابك بين الموت والحياة أعقد من إننا نفصل بينهم بطريقة تفكرينا الثنائية دي.

ثاناتوس كان مجرد رسول، بينقل الروح من مكان لمكان.. مش يمكن لما نموت إدراكنا هو كمان يتنقل من مكان لمكان وتبقى حياتنا موت وموتنا حياة؟


اترك رد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s