
النهاردة هنتكلم عن الخيال وهنبتدي من عند شهريار..
كلنا عارفين الملك شهريار طبعًا، وإزاي إنه بعد اكتشافه خيانة مراته له قرر إنه ينتقم من النساء كلها بإنه يتجوز واحدة كل يوم ويعدمها في الصباحية. وفضل بالمنظر ده لحد ما في يوم من الأيام بنت الوزير طلبت من والدها إنه يجوزها للملك. طبعًا الوزير رفض في الأول لإنه عارف مصيرها هيكون إيه بس البنت أصرت وألحت. البنت دي هي شهرزاد، واللي في أول ليلة لها مع شهريار حكت له حدوتة لحد ما الصبح طلع عليهم من غير ما تكملها، فشهريار قرر إنه مايعدمهاش ويديها يوم كمان.. في الليلة التانية شهرزاد كملت الحدوتة وابتدت واحدة تانية وبرضه ماخلصتهاش، فالملك اللي كان منبهر بقصصها وأسلوبها في الحكي سمح لها تعيش ليلة كمان. فضل الوضع ده يتكرر ليلة ورا ليلة لحد ما وصلوا لألف ليلة وليلة، وساعتها كان شهريار سَلم نِمر خلاص وبقى متيم بحب شهرزاد.
شهرزاد ماستخدمتش القوة علشان تمنع الملك من قتل زوجة جديدة كل يوم، ولا حاولت تقنعه بالعقل والمنطق. اللي عملته شهرزاد أذكى من كده بمراحل.. شهرزاد استخدمت قدرتها على تطويع الخيال في إنها تربط واقع الملك بعوالم أخرى غريبة عنه، فانتزعت من قلبه الغضب (من تأثير خيانة مراته الأولى) واستبدلته بانبهار الأطفال. فكان بيبقى معاها زي الطفل.. بيشوف أبعد من الواقع المحدود بتاعه.
ليه لما بنعوز الأطفال يقتنعوا أو يعملوا حاجة بنحكي لهم قصص ونخلق لهم حاجات مش موجودة؟ ليه علشان نخلي الطفل يأكل خضار بنقعد نحكيله حدوتة عن الأستاذ قلقاس وإزاي إنه محتاج يدخل جوه بطنه علشان يدور على ولاده القلاقيس الصغيرين؟ (لو عندي طفل وقولت له كده هيرمي القلقاس في وشي ويسيبلي البيت ويمشي تقريبًا) ليه بنحكيلهم قصص قبل ما يناموا؟
الفكرة إن الطفل بيحتاج الحواديت والخيال ده علشان يساعده يتعامل مع الواقع اللي بالنسبة له غير منطقي أو غير مفهوم. الخيال مش بينفي واقعه، ولكنه بيخلي له معنى أحلى وأكبر وسهل التحكم فيه كمان.
وده بالظبط اللي شهرزاد عملته مع شهريار.
كتير من الناس بيشوفوا إن الخيال بالمعنى ده ما هو إلا كدب وتضليل، وده كان رأي كتير من الفلاسفة زمان. واحد زي أفلاطون Plato مثلاً في كتابه “الجمهورية” The Republic قال إن الخيال بيساعد على نشر الكدب والخديعة وبيبعد الأطفال عن مفاهيم فاضلة زي الحقيقة والأمانة. بس لو فكرنا فيها كده هنلاقي إن الخيال في حد ذاته طبيعة بشرية وحاجة الإنسان مايقدرش يستغنى عنها. الخيال مش بيمسك الواقع يرميه من البلكونة ويقول ده غلط أو مش موجود، الخيال بيساعدنا نخلق مفهوم خاص بينا عن الواقع وبيملأ الفجوة الكبيرة بين المعرفة والخبرة.
الخيال لا يتعارض مع الواقع أو المنطق خالص! بالعكس، ده بيساعدنا مانتوهش وسط الأوجه اللامتناهية من الحقيقة. كنت اتكلمت قبل كده في الموضوع بتاع بودریار Baudrillard ومدرسة ما بعد الحداثة Postmodernism إزاي إن مفيش حاجة اسمها “واقع” أصلاً وإن اللي احنا بنختبره ده هو محاكاة لواقع آخر اللي بدوره محاكاة لواقع آخر وهكذا. من الأخر كده مفيش حقيقة واحدة متأصلة عن حياتنا والكون ومعناه ممكن تتطبق على كل الناس اللي عاشوا واللي عايشين واللي لسه هيعيشوا. فلو شوفنا الواقع من المنطلق ده هنفهم إن الخيال وسيلة مهمة، وضرورية كمان، علشان نعرف نعيش أصلاً لأنه بيساعدنا نفهم ونخلق معنى مناسب لنا عن الحياة بالرغم من محدودية المنطق وهشاشة ما يسمى ب”الحقيقة”.
وعلشان كده مدارس كتير في علم النفس بيعترفوا بدور الخيال في تشكيل وعي الإنسان وفي فهم النفس البشرية، ولنفس السبب فرويد Freudويونج Jung اعتمدوا بشكل كبير على تحليل الأساطير والقصص الشعبية علشان يفهموا اللاوعي الفردي والجمعي.
وبعيدًا عن علم النفس، فيه كاتب وباحث اسمه كيران إيجان Kieran Egan بيقولنا إن الخيال بيلعب دور كبير في مراحلنا التكوينية الأولى. إيجان بيقول إن الطفل علشان يتعلم أي كلمة جديدة لازم يربط بين الرمز (الكلمة لغويًا) والشيء اللي بتشير إليه الكلمة في الواقع. يعني مثلاً علشان يتعلم كلمة “قطة” لازم حد يقول الكلمة قدامه ويشاور على الكائن نفسه أو صورة للقطة. الفكرة بقى إن العملية دي بتبقى أصعب لما بتكون الكلمة بتشير لحاجة معنوية أو حاجة وجودها المادي مش واضح.. ساعتها الطفل بيلجأ لأسلوب ملء الفراغات عن طريق وضع المفهوم الجديد ده بين حاجتين واضحين بالنسبة له أو اختبرهم قبل كده. يعني إيه الكلام ده؟ كلمة زي “فاتر”.. إزاي أعلم الطفل مفهوم المياه الفاترة؟ لو قعدت أشرحله أو أخليه يلمس مياه فاترة من هنا للصبح برضه مش هيفهم. اللي بيحصل بقى إن الطفل لازم يكون الأول عارف مفهوم “سخن” و”بارد” وعلى أساسه بيحط “فاتر” في الفراغ بين الاتنين فتبقى مفهوم “فاتر” بالنسبة له حاجة مش سخنة أوي ولا باردة أوي. وحاجات كتير جدًا في حياتنا بنتعلمها، ككبار أو أطفال، بأسلوب ملء الفراغات ده. المشكلة بقى إن الحياة بتفشل في أوقات كتير إنها توفر لنا الحاجة اللي نملأ بيها الفراغ ده، وهنا بقى يجي دور الخيال. الواقع موفرلنا “فاتر” كحاجة بين السخن والبارد.. طيب إيه اللي بين “ميت” و”حي”؟ إيه اللي بين “إنسان” و”سمكة”؟ حاجات كتيرة جدًا وفراغات لا تُعد ولا تُحصى الواقع مابيقدرش يملأها.. ساعتها بنلجأ للخيال اللي بيقولنا إن بين الميت والحي ممكن يكون فيه “شبح” أو”زومبي” وإن بين الإنسان والسمكة ممكن يكون فيه” عروسة بحر” وإن بين الإنسان والسرير ممكن يكون فيه “سرنسان”.. وهكذا.
العظيم ج. ر. ر. تولكين J. R. R. Tolkien صاحب قصة “سيد الخواتم” Lord of the Ringsبيأكد على فكرة إن الخيال بيساعدنا على ملء الفراغات اللغوية والمعرفية. بيقول إن عقل الإنسان عنده القدرة على تفصيص المعطيات وخلطها لإنتاج معطيات أخرى جديدة، وبما إن محدودية الواقع عمرها مابتواكب المقدرة دي فلازم يلجأ للخيال. وبيدي مثال وبيقول لما بنشوف “عشب أخضر” احنا مابنستوعبهوش على بعضه كده.. عقلنا لازم يفصصه لملمس وشكل وحجم ولون، فممكن جدًا ناخد اللون من “العشب الأخضر” ونحطه على “القمر الأبيض” فيبقى عندنا “قمر أخضر” ودي حاجة مش موجودة في الواقع ولكن وصلنا لها عن طريق النزعة الطبيعية في عقولنا للخيال وإن دي مقدرة مهولة لو الإنسان عرف يقدّرها ويوظفها صح.. وهنا طبعًا كان قصده القدرة على الإبداع.
وعلشان كده الأطفال هم أكتر كائنات مبدعة في الدنيا لأنهم مؤمنين إيمان تام بقدرة الخيال على إعادة تشكيل واقعهم، ودي الحاجة اللي إحنا كبالغين معظمنا بيفتقدها للأسف. واحنا بنكبر بنفقد إيماننا بقدرة الخيال وبنستسلم لمحدودية وضغوط الواقع غير مدركين إننا بنحشر عقولنا وقدراتها غير المحدودة جوه علبة كبريت.
فيه كاتبة اسمها مارينا وارنر Marina Warner بتقول إن فى أحد العروض المسرحية ل”بيتر بان” Peter Pan اتطلب من الجمهور يصقفوا لو عايزين الجنية الطيبة تينكر بيل Tinker Bell تعيش بعد ما اتسممت. وارنر بتقول إن الأطفال صقفوا بلا تردد في حين إن الكبار ضحكوا أو اترددوا أو صقفوا بعد فترة، وقالت إن ده سببه إن احنا ككبار بقينا غير قادرين على الانغماس في الخيال وبالتالي فقدنا الإيمان بقدرتنا على تغيير أي شيء.
وده وضحلي ليه أنا دايمًا بربط بين الأشخاص اللي عندها القدرة على الخيال والإبداع أو تذوق الخيال والإبداع وبين طهارة الروح لأن الأشخاص دول لسه الدهشة الطفولية عايشة جواهم ومازنقوش أرواحهم جوه علبة الكبريت وسابوها تكمكم.
وده اللي عملته شهرزاد مع شهريار.. بخيالها نقّت روحه من الغل ورجعت قلبه قلب طفل تاني.
حدوتة “ملكة الثلج” “The Snow Queen”لهانس كريستيان أندرسن Hans Christian Andersen بتنتهي إن الجدة بتقرأ للأطفال أبطال القصة سطر بديع من إنجيل متّى:
“Except ye become as little children, ye shall not enter into the kingdom of heaven”
وترجمته: “إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السماوات”
ممكن الواحد يبقى دايس عليه ترللة في الواقع بس مجرد مابيسيب نفسه للخيال والإبداع روحه بترقى.. حتى لو للحظات قصيرة، وبيشوف اللي مابيشوفهوش غيره بدهشة طفولية كأنه بيري العالم لأول مرة.
ملكوت السماوات في تفسيري المتواضع هو النشوة الناتجة عن تحرير العقل والروح من ثقل المنطق والواقع.. لما بندرك إن الكون جوانا أوسع مليون مرة من اللي أجسامنا محبوسة فيه.
ولكم في الخيال حياة..