
تخيلوا نفسكم
في الموقف ده: دلوقتي قدامك واحد ضخم الجثة ماسك تلات أطفال – أو تلات حيوانات –
ونازل فيهم تعذيب وضرب قد يؤدي للموت، والطريقة الوحيدة المتاحة لك لإنقاذ الأطفال
هي إنك تموت الراجل بالمسدس اللي معاك.
يا ترى هتموته ولا لأ؟
لو قولت لأ مش هموته علشان القتل حرام أو غير أخلاقي يبقى كده حضرتك deontologist ولو قولت آه طبعًا هموت أمه يبقى أنت consequentialist.. التصنيف ده ملهوش علاقة بكونك أخدت التطعيم وأنت صغير ولا لأ بس له علاقة بفلسفتك الأخلاقية وبالتالي طريقتك في إتخاذ القرارات.
نبتدي بال deontology أو الأخلاق الواجبة. ولو هنتكلم عن الأخلاق الواجبة يبقى لازم نتكلم عن الأستاذ إيمانويل كانط Immanuel Kant، وبرغم أن كانط كان ناظر مدرسة في نفسه وبرغم أن مصطلح الأخلاق الواجبة ظهر بعده بكتير إلا أن فلسفته عن الأخلاق بتعتبر الحجر الأساسي لمذهب الأخلاق الواجبة.
كانط بيقولنا إن الإطار الأخلاقي اللي بيتحكم في قراراتنا وأفعالنا بينقسم لنوعين من الأوامر: أوامر أخلاقية افتراضية hypothetical imperatives وأوامر أخلاقية مطلقة categorical imperatives. الأوامر الأخلاقية الافتراضية هي القوانين الأخلاقية اللي لازم نمشي عليها لإنها بتخدم نتيجة معينة، مثال على ده لما واحد يقول “أنا لازم أرعى والدي ووالدتي علشان لما أكبر أولادي يراعوني”، أو “لازم أشتغل بضمير علشان محدش يعرف يمسك عليا حاجة”.. هنا الطبيعة الأخلاقية للأمر اعتمدت بشكل كبير على النتيجة اللي بيحققها تنفيذ الأمر. أما النوع التاني من الأوامر، الأوامر الأخلاقية المطلقة، فهي بتعتمد على القواعد الأخلاقية في حد ذاتها بغض النظر عن النتائج، يعني لازم أرعى والدي ووالدتي علشان ده مبدأ أخلاقي واجب.. لازم أشتغل بضمير علشان ده اللي المفروض أعمله. بس!
طيب لو مفيش نتائج نحكم عليها بمدى أخلاقية الفعل، الفعل بيستمد طبيعته الأخلاقية المطلقة منين؟ يعني إيه اللي يخلينا نحكم على فعل معين إنه نابع من أمر أخلاقي مطلق؟ كانط بيقولنا إن الفعل ده لو شمولي وغير متحيز يبقى فعل أخلاقي مطلق. يعني إيه؟ كانط يقصد إن الأوامر الأخلاقية المطلقة بتتميز بأنها منفصلة تمامًا عن الشخص اللي بيتخذ القرار والظروف المحيطة به، وإن قوة الطبيعة الأخلاقية للفعل مستمدة من كون المبدأ غير مرتبط بإنسان معين أو مكان معين أو ظروف معينة.
وده بالظبط الفكر اللي قايم عليه مذهب الأخلاق الواجبة.. بحكم على أفعالي بمعيار واحد فقط: هل الأفعال دي أخلاقية أم لا؟ بغض النظر بقى عن نظرتي الشخصية للأمور وتفسيري للموقف والظروف المحيطة والنتائج المحتملة. وعلشان كده في الموقف الافتراضي اللي ابتديت بيه الثريد، الشخص اللي بيتبع مذهب الأخلاق الواجبة هيرفض يقتل الراجل اللي بيعذب الأطفال لأن القتل عمل غير أخلاقي ومفيش أي حاجة تبرره (حتى لو كانت الحاجة دي تعذيب تلات أطفال\حيوانات!)، فالفعل الأخلاقي أتفصل تمامًا عن الظروف المحيطة به.
المذهب الأخلاقي التاني consequentialism أو العواقبية مش محتاج تفسير لأنه نقيض الأخلاق الواجبة. المذهب ده بيشوف إن طبيعة الأخلاقية للفعل أولاً وأخيرًا بتعتمد على نتائج الفعل: لو النتائج إيجابية، يبقى الفعل أخلاقي.. لو النتائج سلبية، يبقى الفعل غير أخلاقي. وبالتالي الشخص اللي بيتبع مذهب العواقبية مش هيتردد في قتل الراجل وهيشوفه عمل أخلاقي عظيم كمان علشان النتائج اللي ترتبت عليه إيجابية وهي إنقاذ الأطفال\الحيوانات الضعيفة.
بالتأكيد معظمكم دلوقتي بيفكر أن فيه مذهب من الاتنين دول أحسن من التاني وبيحقق المعايير الأخلاقية بشكل أفضل، بس للأسف الشديد لو فكرنا فيهم هنلاقي أن المذهبين سخام برك والإنسان – يا عين أمه – برضه عمره ما هيلاقي إجابة قاطعة لتحديد الجدوى الأخلاقية لأفعاله:
لو ابتدينا مثلاُ بمذهب الأخلاق المطلقة.. أولاً المذهب بيعتمد على إلغاء ذاتية الأخلاق والاعتماد على الإطار الشمولي للمبادئ الأخلاقية. حلو أوي، بس هو مين حط الإطار الشمولي ده؟ الدين؟ أنهي دين؟.. القانون؟ أنهي قانون؟.. الفطرة؟ أنهي فطرة؟.. ده حتى تقديرنا لشمولية أي شيء بيعتمد على ذاتية التقدير ده اللي بيبقى مُحدد بزمان ومكان معينين. اللي الناس كانت شايفاه فطري من 500 سنة دلوقتي مابقاش فطري، والعكس صحيح. الأديان والقوانين والفطرة كلها بتتغير، يبقى على أي أساس بنينا الشمولية دي؟
ثانيًا، اتباع مذهب الأخلاق المطلقة في أحيان كتير بيؤدي للتضارب.. أو بيعمل تربنة في النظام الأخلاقي للفرد. لو أخدنا موقفنا الافتراضي كمثال، الشخص اللي بيتبع مذهب الأخلاق المطلقة هيرفض يقتل الراجل علشان القتل عمل غير أخلاقي، حلو. طيب هو مش التغافل عن الظلم والقسوة برضه عمل غير أخلاقي؟ معنى كده أن اتباع أمر أخلاقي مطلق قد يؤدي بالضرورة لنفي أمر أخلاقي مطلق آخر ملازم له… اللي هو جيت أظبت الجاكيت البنطلون ضرب.
أما مذهب العواقبية فبلاويه كتيرة برضه. أولاً، الحكم على الموقف وجدواه الأخلاقية بيختلف اختلاف كبير من شخص للتاني لاعتماده على النظرة الذاتية للأمور وبالتالي هيبقى عندنا 900 ألف نتيجة للموقف الواحد كلهم بيدّعوا الأخلاق. ثانيًا، على الرغم من أن التصرف على أساس النتائج حل عملي جدًا ومقبول إلا أنه خطر لعدم قدرتنا على التنبؤ بالمستقبل. يعني مهما كانت النتائج دي في تقديرنا حلوة أو وحشة فهي برضه غير مؤكدة. مفيش حاجة بتأكدلي إني لو قتلت الراجل الأطفال مش هتموت أو أنهم هيطلعوا ناس أسوياء.. وممكن جدًا يكون لتعذيبهم نتائج إيجابية أنا عمري ما هقدر أشوفها (مش ببرر التعذيب أكيد، ده موقف افتراضي).
تعالوا نطبق على مثال تاني: دلوقتي واحد كتب بوست أو تويت متخلف بيسيء فيها لناس تانية. طبيعي جدًا أن ناس هتقول يالا نسف عليه علشان يحرم يكتب الكلام ده تاني، أو علشان الناس تفكها من القفش اللي هي عايشة فيه ده.. إلخ. أي كانت الأسباب فهي قايمة على النتائج اللي هيحققها فعل السف. طبعًا النتائج دي بتبقى معتمدة على تفسيرات وتوقعات ذاتية ممكن تبقى صح أو غلط: ممكن صاحب البوست يتعظ فعلاً أو ممكن يحس بالقهر ويأذي نفسه.. ممكن الناس تضحك وتنبسط، وممكن لأ. فيه نوع تاني من الناس هيقولوا السف ده تنمر واستحالة نشترك فيه أي كان الشخص أو الكلام اللي كتبه. كلام جميل، بس أي نوع من السف بالظبط قررت أنه تنمر؟ ويا ترى لو سبت الشخص ده في حاله مش كده برضه يبقى سكوت عن كذب وتضليل (خصوصًا لو لكلام اللي كتبه هيأذي حد تاني).
الفكرة بقى أن مفيش حد فينا بيتبع مذهب الأخلاق المطلقة أو مذهب العواقبية على طول الطريق في حياته، أغلبنا بيعمل مهلبية من الاتنين على حسب الوقت والظروف، وبيبرر لنفسه أفعاله في الحالتين عادي خالص (لازم للأسف نعمل كده وإلا هنتجنن أو هندخل في حلزونة ملهاش أخر من جلد الذات).
المهم بالنسبة لي أننا نفضل نتساءل عن الجدوى الأخلاقية لأفعالنا أي كانت النتيجة اللي هنوصل لها.
رأيان حول “الأخلاق الواجبة والعواقبية”