بما إن الدوشة اللي حوالين Bandersnatch – أخر حلقة من حلقات مسلسل Black Mirror – خلصت، أحب بقى أعبر عن رأيي اللي ملهوش لازمة: على الرغم من أن التجربة جديدة – مش أوي يعني وهنعرف ليه دلوقتي – ومطرقعة إلا إن فنيًا مش متوسمة فيها خير ومش متحمسة خالص إني أشوفها.

مبدئيًا نوع السرد اللي أتبعته الحلقة مش جديد وله اسم متعارف عليه بالhyperfiction أو الhypertext fiction (ممكن بالعربي نسميه السرد التفاعلي)، والنوع ده من السرد مختلف عن الميتا سرد metafiction اللي أتكلمنا عنه قبل كده. في الميتا سرد الحدوتة بتلفت نظر القارئ\المشاهد لطبيعتها السردية أو لحدودها الخيالية اللي بتداخل مع الواقع أحيانًا. أما السرد التفاعلي فهو نوع من السرد قائم على تدخل القارئ\المشاهد في بناء الحدوتة نفسها.
يعني إيه؟
يعني النص مش بيبقى مبني على خط مستقيم لو حطيت رجلي على أوله لازم أوصل للأخر، الأحداث في النص التفاعلي بتبقى متشعبة زي الشبكة والقارئ ممكن يدخلها من أكتر من نقطة بداية node وبعد كل خطوة بياخدها بيُقابل باختيارات أخرى بتغير من مسار القصة وبتوديه في حتة تانية خالص.. وهكذا. يعني من الأخر الموضوع بيبقى عامل زي المتاهة مليان تشعبات واختيارت عند كل node. وده معناه أن النص متغير غير محدد الملامح والحبكة. وزي ما قولتلكم فوق، الموضوع ده مش جديد خالص.. عندنا مثلاً واحد زي مايكل جويس Michael Joyce ألف قصة تفاعلية إلكترونية سنة 1987 اسمها afternoon, a story وواحد تاني اسمه ستيوارت مُلثروب Stuart Moulthrop ألف قصة تفاعلية سنة 1995 اسمها Victory Garden، وفيه غيرهم محاولات تانية كتير. ده غير إن ألعاب الفيديو بتُعتبر كمان من النصوص التفاعلية.

طيب نحط النص التفاعلي على جنب لثواني ونتكلم عن شكل النص الروائي من منظور نقدي *بتلبس النضارة كعب الكوباية*..
أي قصة في الدنيا ممكن تتقسم ل fabula الأحداث، و sjuzet الحبكة، و criticism/interpretation التفسير الناقد. يعني مثلاً لو قولت “عباس جلس على السرير ليقرأ مجلة ميكي بعد أن قتل أصدقائه جميعًا”.. الأحداث هنا هي عباس قتل أصحابه كلهم وعباس قعد على السرير يقرأ ميكي، الحبكة هي تتابع الحدثين (القتل ثم القراءة فعليًا، والقراءة ثم القتل روائيًا)، أما التفسير فهو كيفية قراءة كل متلقي للقصة القصيرة العظيمة دي.. ممكن واحد يقول عباس ده ابن مجنونة مختل، واحد تاني يقول لأ فعل القتل ده رمزي، واحد تالت يقول دي سخرية من الكاتب.. إلخ.
في الميتا سرد أو السرد العادي القارئ أو المشاهد بيلعب في منطقة التفسير الناقد بس، والحاج رولاند بارت Roland Barthes بيقولنا أن دي حاجة مش قليلة لأن دور القارئ في تفسير النص هيؤدي لظهور عدد لا متناهي من النصوص المتفرعة من النص الأصلي على حسب عدد التفسيرات. يعني حضرتك كل مرة بتقرأ أو بتشوف فيها قصة بتساهم في أن النص ده يتطور ويتشعب بشكل ضمني، ومن هنا جاءت فكرة بارت الشهيرة بتاعت موت المؤلف Death of the Author والمقصود بيها أن المؤلف والمعنى اللي كان يقصده بينفصلوا تمامًا عن النص بمجرد أن أشخاص تانيين يقرأوه.
حلو الكلام؟ حلو.
إيه اللي بيختلف في السرد التفاعلي بقى؟ اللي بيختلف إن الدور الفعال للقارئ مش بيبقى في مرحلة التفسير زي السرد العادي إنما في مرحلة الحبكة نفسها لأنه هو اللي بيتحكم في مسار الأحداث وترتيبها.. يعني ممكن أخلي عباس يخلص قراءة ميكي الأول وبعد كده يقتل أصحابه، أو إنه يقرأ بلاي بوي بدل ميكي، على حسب الاختيارات اللي عندي. بس كده ممكن حد فلوطة يطلع يقولي طيب ما هو كده غيّر من الأحداث نفسها مش الحبكة بس! الأستاذ فلوطة عنده حق.. فيه نقاد فعلاً قالوا أن الأحداث جزء لا يتجزأ من الحبكة وأنها قائمة عليها، وأي تغيير في الحبكة طبيعي هيترتب عليه تغيير في أحداث القصة. وده معناه أن دور القارئ بقى زيه زي دور المؤلف.
اللي عايزة أوصله من الرغي ده كله أن النص التفاعلي بيدي للقارئ\للمشاهد – ممكن ساعتها كمان نسميه مستخدم user – سلطة التحكم في النص لكن في المقابل بيسلب منه متعة الاستمتاع بالنص فنيًا.. ونحط اتنين وخمسين خط تحت فنيًا دي. من ناحية الاستمتاع فأنت هتستمتع أكيد علشان هتحس أنك زيك زي المؤلف قاعد جوه النص ومدلدل رجليك وبتتحكم في أحداثه وشخصياته.. بس هنا لازم نفرق بين التسلية في المطلق والفن. مش هدخل في المناقشة السفسطائية بتاعت علاقة الفن بالتسلية بس على الأقل معظمنا متفقين أن مش كل شئ مسلي يبقى لازم بالضرورة ممتع فنيًا أو نسميه فن.
مشكلتي مع النص التفاعلي أنه بيلهي القارئ في تركيب الحبكة والأحداث بعيدًا عن مضمون النص نفسه. القارئ مابيبقاش عنده فرصه يفسر الأحداث لأنه بيبقى ملهي في الاختيارات والقرارات ومرحلة الميكانو دي. يعني على الرغم من أنه بيتفاعل مع الأحداث بنائيًا وفعليًا إلا إنه بيفشل في التفاعل معها عاطفيًا ووجدانيًا.
في رأيي المتواضع التفاعل الوجداني مع النص ده من أهم مقومات الفن. المتلقي لازم يحس أنه قدام كيان مساوي له في الأهمية، إن مكانش أهم، قادر على احتوائه فكريًا ووجدانيًا. ومش بقول إن احنا بالضرورة لازم نحس بالضعف قدام العمل الفني لكن فكرة التفاعل قائمة على أننا بنلاقي حاجة بتكلم ال vulnerabilities بتاعتنا، سواء الفكرية أو العاطفية.
الcatharsis مثلاً أو التنفيس العاطفي من منظور أدبي في مضمونه بيعتمد على أن المتلقى بيتكشّف قدام النص، مش العكس، وبيُظهر كل نقاط ضعفه وبالتالي بيتطهر من المشاعر والأفكار اللي جواه (والتطهر هنا معناه أنها بتظهر قدامه مش بيتخلص منها للأبد).
طيب هل احنا محتاجين هذا النوع من ال helplessness ؟ – هو مش قلة حيلة أوي يعني بس مجازًا هنسميه كده – الإجابة هي.. أينعم. برغم غطرستنا كبني آدم ورغبتنا في لعب دور الآله الدائم إلا إننا محتاجين نحس بالضعف وقلة الحيلة أحيانًا علشان ندي معنى لوجودنا، أو على الأقل علشان مانحسش أن المعنى ده غير موجود أو متوقف علينا احنا بس (فكرة مخيفة ومربكة جدًا لطبيعتنا البشرية).. وده اللي الدين والفن بيعملوه وإن كان بأشكال مختلفة طبعًا. الاتنين بيقدموا وسيلة للتواصل مع الجانب الوجداني فينا اللي عايز يستسلم ويتخلص من ديكتاتورية الجانب المادي.. في الدين التواصل بيكون مع إله وفي الفن مع العمل الفني (بهرطق معلش).
نسيبنا من مزنق الفلسفة اللي دخلنا فيه بقى، مشكلة النص التفاعلي معايا إنه بيعكس الأدوار وبيدينا دور الإله – نصف إله كمان علشان بنلعب بالمكونات اللي موجودة مسبقًا! – فالبتالي بنفقد التواصل العاطفي مع النص، والجانب الوجداني فينا بيكش وبيختفي ورا الجانب المادي.. ده غير إننا فكريًا بنبقى ملهيين في بناء النص عن مضمونه زي ما قولت قبل كده.
وعلشان نبقى واضحين أنا كل ده بتكلم عن الفن من وجهة نظر المتلقي لأن تلقي الفن وإنتاجه موضوعين مختلفين تمامًا.
أنا مش بقلل من دور النص التفاعلي خالص.. بالعكس، أنا شايفة إنه تجربة مثيرة للاهتمام جدًا بس غير مشبعة فنيًا (أو على الأقل بالنسبة لي علشان مباحث التعميم(. التجربة الفنية عاملة زي متعة ممارسة الحب.. على الرغم من أنك بتبقى حاضر ذهنيًا إلا إنك بتستسلم روحيًا للنص.
دمتم في فن.