جاكسون وعلي معزة والتأقلم مع الصدمة

هناخد غطس في علم النفس في موضوع النهاردة…

المرة اللي فاتت واحنا بنتكلم عن أوديسيوس والتفسير النفسي لرحلة البطل ذكرت أن ضحايا الصدمة النفسية بيتعايشوا مع الصدمة بطرق مختلفة، بس قبل ما نرجع للنقطة دي محتاجين الأول نعرف يعني إيه صدمة وإزاي بتأثر علينا.

تعريف الصدمة النفسية ببساطة هو حدث ما (سيء طبعًا) بيحصل في حياة الشخص وبيفشل في أنه يستوعبه في وقتها، يعني استيعاب الحدث لا يتزامن مع وقوع الحدث. وبما إن الحدث ده بيبقى مزعج نفسيًا فضحية الصدمة بيستوعبه بأثر رجعي وبشكل مطول، مما يتسبب في أعراض كتيرة زي الأحلام المزعجة والفلاش باك (يعني استرجاع الحدث المزعج زي ما هو بعبله كده) والأرق ونوبات القلق والهلع والاكتئاب والميول الانتحارية، وفي الحالة دي الضحية بيبقى مصاب باضطراب ما بعد الصدمة أو Post-Traumatic Stress Disorder واللي بنختصره لPTSD.

طيب ليه الضحية بيفشل في استيعاب الصدمة في وقتها؟ السبب في ده بيعتمد على طبيعة الصدمة نفسها ومفهوم الضحية عن نفسه وعن العالم. هوضح أكتر.. بالرغم من إننا كلنا بنشترك في نفس العالم وعايشين نفس الواقع إلا إن فكرة كل واحد فينا عن الواقع مختلفة عن التاني. كل واحد عنده assumptive world أو عالم مُسَلم به بتاعه هو بس وماشي مع دماغه وعلى أساسه عايش حياته اليومية وبيتعامل مع الناس، يعني أنا مثلاً ممكن يكون الassumptive world بتاعي قايم على العدل والخير والبلا بلا، في حين إن الassumptive world بتاع عباس قايم على إن الحياة شريرة وظالمة فلما احنا الاتنين نتعرض لموقف فيه ظلم هو هيبقى عادي بالنسبة له لإن الموقف بيتماشي مع عالمه الخاص، إنما أنا اللي هيجلي الصدمة لإن عالمي الخاص فشل في استيعاب الموقف ده.

وعلشان كده أكتر ناس بتُصاب بالPTSD هم الجنود.. لإن معظمنا بنؤمن بقيمة الحياة الإنسانية ولو بدرجات متفاوتة، فلما واحد يروح يشوف الناس بتموت زي الدبان ودم وأعضاء مبتورة وأشلاء أكيد بيحصل تربنة في الassumptive world بتاعه وبيبقى ضحية للصدمة النفسية. طبعًا مش لازم أشوف عنف ودم وموت علشان أبقى ضحية صدمة، ممكن لأي سبب تاني قد يبدو لبقية الناس معتاد زي ما وضحت فوق، فكرتنا عن العالم مختلفة فطبيعي بنتقبل الأحداث السيئة بأشكال مختلفة.

طيب إيه اللي بيحصل بعد التعرض للصدمة؟ لو الصدمة تأثيرها كبير ولو الضحية ما طلبش مساعدة متخصصة أو من اللي حواليه الموضوع ممكن يتفاقم ويصل لاكتئاب مزمن أو انتحار.. في أحيان أخرى الضحية – بشكل غير واعي طبعًا – بيلجأ لأساليب تعايش أوتأقلم مع الصدمة.

فيه باحثة اسمها فيفيان ماثيس بوون Vivienne Matthies-Boon كانت كاتبة مقال عن الصدمة الجمعية بعد الثورات بتقول فيه إن ضحية الصدمة عادًة بيلجأ لوسيلة من اتنين للتأقلم مع الصدمة:

1)إعادة دمج الصدمة Reintegrative coping mechanisms

2)إعادة تفسير الصدمة Reinterpretative coping mechanisms

الأولانية يعني باخد الحدث الصادم ده زي ما هو وبحطه في assumptive world جديد يتلاءم معاه أو بمعنى آخر برمي فكرتي القديمة عن العالم في الزبالة وبتبنى فكرة جديدة الحدث الصادم فيها هيبقى حاجة عادية. مثال على ده: واحد شاف باباه بيتقتل ويتسلخ قدامه فيروح مغير فكرته عن براءة العالم وطيبة الناس ويبتدي يؤمن أن الناس كلها ولاد كلب فطبيعي أن حاجة زي دي تحصل عادي.

الوسيلة التانية هي إني بحتفظ بالassumptive world بتاعي زي ما هو ولكن بأعيد تفسير الصدمة علشان تليق مع فكرتي عن العالم. مثال على ده: نفس الواحد اللي شاف باباه بيتسلخ ويتسلق قدامه، هيفضل مؤمن ببراءة العالم والناس وكل حاجة بس هيقول أن اللي حصل ده كان لسبب مش هفهمه دلوقتي وأنه امتحان مثلاً.

طبعًا أحيانًا الخط الفاصل بين الوسيلتين دول ما بيبقاش واضح أوي والتفسيرات بتتداخل.. المهم يعني إن الوسيلتين دول مش معناهم إن الضحية خلاص تمام ويروح يلعب جولف، هي بس أساليب بتساعده على التأقلم.

بما إني الفترة اللي فاتت دي كنت بتفرج على أفلام مصرية شابة بتتكلم عن الصدمة النفسية (بشكل مباشر أو غير مباشر) قولت نطبق عليهم النهاردة (وهو نخفف تقل الموضوع شوية). الفيلمين اللي أخترتهم هم شيخ جاكسون وعلي معزة وإبراهيم، واختياري للأفلام دي مش دعاية ليهم ولا اعتراف بإنهم أحسن أفلام انتجتها البشرية، أنا بس هستخدمهم كأمثلة.. واللي ماشفهومش ومش عايز يحرقهم ممكن يبطل قراية هنا.

الشيخ جاكسون، 2017

في المختصر المفيد، الشيخ جاكسون بيتكلم عن إمام شاب وهو صغير أتعرض لصدمة كبيرة وهي موت أمه اللي كان قريب منها جدًا، الموضوع أتعقد أكتر لما أضطر يعيش مع أبوه اللي كان بيعامله بكل قسوة وبيفرض عليه شخصية معينة. المهم يعني، الولد ده – خالد – بيتخلى عن شخصيته الكيوت الحلوة وعن حبه لمايكل جاكسون وبيتجه للتطرف الديني. ليه ده حصل؟ ده ببساطة نوع من التأقلم مع صدمته (موت الأم وقسوة الأب)، فاللي عمله هو إنه لجأ لإعادة دمج “reintegration” صدمته في assumptive world جديد وهو التطرف.. فالموت فيه هيبقى حاجة عادية والقسوة متقبلة فيه لحد كبير وهيقدر يعيش بشكل “شبه طبيعي”. طبعًا الانتكاسة اللي بتحصل لخالد بتثبت إن الأسلوب ده في التأقلم مش على طول بينجح لإن ممكن الassumptive world الجديد يبقى هش ويتهاوى في أي وقت وتأثير الصدمة يرجع تاني.

علي معزة وإبراهيم، 2016

الفيلم التاني هو علي معزة وإبراهيم، هنسبنا من إبراهيم ونركز مع علي معزة. علي شاب بسيط وطيب كان بيحب واحدة – خطيبته – اسمها ندى بجنون، ولما ندى ماتت (بشكل عبثي) أفتكر إن روحها لبست في معزة وبقى مرافق المعزة دي في كل مكان. هنا واضح إن ده إعادة تفسير للصدمة “reinterpretation” لإن فكرة علي عن العالم وشخصيته وعلاقته بأصحابه فضلت زي ما هي، اللي عمله هو إنه أعاد تفسير موت ندى العبثي على أنه حدث خارق للطبيعة علشان يليق مع فكرته المطيورة والطيبة عن العالم. وأكيد أسلوب التأقلم ده برضه مش بينجح أوي علشان التفسير اللي بيتبناه الضحية ممكن يأثر بشكل سلبي على حياته، يعني طول ما علي مؤمن بندى المعزة ده هيحيل بينه وبين دخوله في علاقة رومانسية طبيعية.

طيب لا كده نافع ولا كده نافع! إيه الحل؟

ماثيوس بوون بتقولنا إن الحل في التواصل أو حاجة اسمها holding space. يعني مانعتمدش على نفسنا وبطولنا كده علشان نتعايش مع الصدمة، لازم نتواصل مع اللي حوالينا سواء بشكل مساعدة طبية أو معنوية أو أي حاجة.

التواصل مع الآخرين هو اللي هيدلنا المرساة بتاعنا فين وإذا كنا محتاجين نغير مكانه ولا لأ. خالد ما بيبتديش يفهم أبعاد صدمته الحقيقية غير لما بيرجع يتكلم مع باباه، وعلي ما بيستوعبش موت ندى إلا من خلال صداقته بضحية زيه.

الحل يبدو رومانسي بالنسبة لي وممكن ينفع في حالات الصدمة البسيطة… بس مين عارف! Hold each other’s spaces, people


رأي واحد حول “جاكسون وعلي معزة والتأقلم مع الصدمة

اترك رد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s