أوديسيوس ورحلة البطل

النهاردة هنتكلم عن الملحمة الإغريقية الشهيرة الأوديسة The Odyssey للشاعر هوميروس. فيه منكم أكيد درسها ومنكم قرأ عنها ومنكم شافها في أفلام أو حتى سمع عنها. ملحمة الأوديسة بتحكي قصة البطل الإغريقي أوديسيوس Odysseus ورحلته اللي استمرت عشرين سنة.

إيه الرحلة الجملي دي؟ ويا ترى كان بيهبب إيه في العشرين سنة دول؟.. محتاجين نبدأ القصة من أولها…

أوديسيوس كان ملك على جزيرة يونانية اسمها إيثاكا ويدوبك أول ما مراته خلفت له ولد قامت حرب طروادة وأضطر إنه يسيب أسرته ويروح يشترك في الحرب على مضض. حرب طروادة استمرت عشر سنين وانتهت بفوز الإغريق ووقوع مدينة طروادة في إيديهم بسبب فكرة أوديسيوس الشهيرة بتاعت حصان طروادة. المهم الجيش كان كله هييييييه فوزنا يالا نروح بيوتنا بقى، وأوديسيوس أخد الرجالة بتوعه وركب سفينته علشان يرجع لإيثاكا. وكأي أسطورة إغريقية أصيلة الأمور طبعًا مش هتبقى بالسهولة دي!

في طريق عودتهم لإيثاكا، أوديسيوس والجنود بتوعه واجهوا مجموعة متنوعة من المصائب والأهوال والوحوش اللي تليق بالأساطير الإغريقية.. المهم إنه معرفش يرجع إيثاكا إلا بعد مرور عشر سنين كمان، ورجع بطوله (ايوه جنوده كلهم فطسوا في رحلة العودة). وهو داخل إيثاكا منشكح طبعًا آثينا (إلهة الحكمة) ظهرتله وخلته يتنكر في شكل شحات علشان يشوف الدنيا عاملة إزاي الأول قبل ما يعلن رجوعه، وفعلاً محدش بيتعرف عليه وبيكتشف إن بسبب طول فترة غيابه كل القادة (اللي منهم كتير أصحابه) كانوا بيزنّوا على مراته تتجوز علشان يبقى للجزيرة ملك باعتبار إن أوديسيوس خرج ولم يعد. المهم مراته أخيرًا بتوافق وبتعمل مسابقة لكل العرسان اللي متقدمين لها إن اللي هيعرف يمسك القوس بتاع أوديسيوس ويستخدمه يبقى هو الفايز وهتتجوزه.

طبعًا كلهم بيفشلوا علشان ده قوس بطل يعني والراجل كان عتويل في نفسه لحد ما أوديسيوس نفسه بيمسك القوس بتاعه ويعمل واحدة “سربرايز ماذرفاكرز”.. وفي وسط دهشة الجميع وبمساعدة ابنه بيقتل المتقدمين لمراته واحد ورا التاني وبكده بيتخلص من كل الخونة وبيرجع لأسرته وبيرجع ملك على إيثاكا تاني.

طيب استفدنا إيه إحنا دلوقتي؟ استفدنا أن رحلة أوديسيوس بكل الأحداث اللي فيها دي بتستخدم في القراءات الحديثة للأسطورة للتعبير بشكل رمزي عن مفهوم “رحلة البطل” The Hero’s Journey

أدبيًا، رحلة البطل بتوصف نمط معين للحكي اختصت بيه معظم الأساطير القديمة والحواديت الشعبية واللي بتقسم القصة ل12 جزء، هختصرهم لكم في ثلاثة:

1) الانفصال\الرحيل Departure or separation وده طبعًا بيبقى انفصال أو رحيل البطل عن عالمه أو مكانه المألوف.

2) التحديات والصعاب Challenges and trials ودي الأهوال اللي بيواجهها البطل في العالم الغريب أو غير المألوف.

3) العودة Return واضح إن دي مرحلة رجوع البطل لعالمه المعتاد وده طبعًا بيحصل بعد نجاحه في المرور بكل التحديات فبيرجع إنسان جديد (مع الاعتذار لشعبولا).

ممكن حد يقولي طيب آبانشي إحنا مالنا ومال رحلة البطل دي؟ إحنا مش أبطال ولا عمرنا هنكون أبطال. رحلة البطل مش المقصود بيها بس الرحلة المادية اللي بيقوم بيها البطل ولكنها برضه بتستخدم للإشارة للرحلة النفسية اللي بيعافر فيها كل واحد منا علشان يوصل لأحسن نسخة من نفسه. يعني إيه الكلام ده؟

تعالوا نرجع لأوديسيوس، رحيله عن بيته وذهابه ل”حرب” بيمثل رغبة الإنسان في الثورة على ما وجد نفسه عليه سواء في شخصيته أو في بيئته (واحد كبر لقى نفسه خواف وجبان.. أكيد هيبقى عنده رغبة داخلية إنه يتخلص من الخوف ده، أو كبر لقى نفسه في بيئة متزمتة، أكيد هيبقى عايز يثور عليها)، أما عن المحن اللي قابلها أوديسيوس في رحلته فكل واحدة منها بترمز لمشكلة أو عيب في شخصيته قدر يتغلب عليه. يعني مثلاً خناقته مع الcyclops (الكائن الضخم أبو عين واحدة ده) بتعلمه مايبقاش مغرور ولقائه مع الsirens (الحوريات اللي صوتهم بيسحر الرجالة) بيعلمه إنه مايستسلمش للإغراءات..إلخ.

أكتر حتة بتثير اهتمامي في رحلة البطل في ملحمة الأوديسة لما الحورية Calypso بتسحر أوديسيوس عندها وتخليه معاها على جزيرتها لمدة سبع سنين. بغض النظر عن السحر وال Stockholm Syndrome الصريحة اللي كان واقع فيها الراجل.. بحس إن أوديسيوس فضل قاعد عن كاليبسو الفترة الطويلة دي لإن رحلته كانت قربت تنتهي وكان خايف من الرجوع لجزيرته، ودي أكتر حاجة بتخوفنا من التغيير.. إن الشخصية الجديدة مش هتتأقلم مع البيئة اللي كبرت فيها والأشخاص اللي اتعودت عليهم، وكأننا خايفين نواجه نفسنا إننا فعلاً اتغيرنا.

أما عن مرحلة الرجوع فنلاحظ إنها في الأسطورة ماتمتش بسهولة وسلاسة.. ده كان فيها ألاعيب وخناقات وقتل، يعني تحدي في حد ذاته. فاكرين في البوست بتاع كهف أفلاطون لما قولتلكم إن أصعب مرحلة لما المساجين بيرجعوا الكهف تاني بعد ما يشوفوا العالم الحقيقي؟ نفس الفكرة هنا.. الرجوع للمكان المألوف أصعب مراحل رحلة البطل علشان بيضطر يلاقي طرق لدمج شخصيته الجديدة مع بيئته المعتادة.

بعد ما بنمر بمحنة أو تغير جذري في شخصيتنا، معظمنا مابيرجعش جزيرته تاني (كل حاجة ليها علاقة بعالمه قبل التغيير) وبيستسهل وبيفضل قاعد مع كاليبسو، إنما قليل أوي اللي بيعافر مع الرحلة لأخرها وبيحاول يرجع علشان يكمل دايرة التغيير ويفهم أسبابه وأبعاده.

ولازم أنوه إن مش قصدي بالرجوع هنا الرجوع المادي، إنما الرجوع المعرفي والنفسي.. يعني التصالح مع العالم الأول المألوف. مش معنى إني أتغيرت يبقى أرمي كل الناس والمبادىء والذكريات اللي شكلت شخصيتي ورا ضهري، مهم جدًا أرجعلهم، مش علشان أخدهم بالحضن ولكن علشان أتصالح مع أسباب وجودهم في حياتي أصلاً وأفهم ليه التغيير حصل في المقام الأول.

القراءة دي للأسطورة مفيدة جدًا في علم نفس وبتوضح مثلاً المشاكل اللي بيواجهوها ضحايا الصدمة النفسية trauma victims .ضحية الصدمة في الأول بتحصل مصيبة بتفصله تمامًا عن عالمه المعتاد الآمن assumptive world ودي بتبقى مرحلة الانفصال. بعد كده الضحية بيضطر يعيش مع أعراض الصدمة زي الذكريات السيئة والكوابيس ونوبات الخوف والهلع وحاجات تانية كتير ممكن نوصفها بإنها التحديات والصعاب في رحلة البطل.. شفاء ضحية الصدمة ما بيتمش فعلاً إلا لما بيحصل دمج integration للصدمة اللي اتعرضلها في عالمه الآمن وذلك عن طريق تغيير فكرته عن الصدمة نفسها أو تغيير فكرته عن عالمه الآمن (هنتكلم عن ده بالتفصيل في الموضوع اللي جاي).. كتير من الجنود اللي بيصابوا بال Post-Traumatic Stress Disorder رحلتهم ما بتنتهيش بمجرد العودة لبلادهم وبيوتهم، لأن زي ما قولت العودة دي لازم تبقى نفسية قبل أي حاجة، وفعلاً مابيقدروش يتعافوا من الصدمة إلا من خلال التصالح معها ودمجها في بيئتهم المعتادة.

المهم يعني إن مرحلة الدمج دي هي بعينها العودة في رحلة البطل، وهي بعينها رجوع المساجين لكهف أفلاطون، وهي كل حاجة إحنا محتاجينها علشان نبقى أبطال في عيون نفسنا.


7 آراء حول “أوديسيوس ورحلة البطل

اترك رد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s