
بستغرب جدًا من الناس اللي بتتعجب من حدوث سوء تفاهم في التواصل مع غيرها في حين أن حياتنا كلها عبارة عن سوء تفاهم كبير. اللغة اللي احنا بنستخدمها في أبسط صورها علشان ننقل أفكارنا ومشاعرنا معقدة بشكل يتعدى إدراكنا أصلاً. يعني احنا معتقدين أن لو استخدمنا كلمة معينة والكلمة دي ليها معنى وإشارات ومدلولات معينة هتوصل للشخص التاني بنفس معناها ومدلولاتها، وده من المستحيل يحصل.
كلمة بسيطة زي “قطة”.. لو أنا كتبت أو نطقت الكلمة دي ذهني بيبقى مستحضر شكل كائن معين بأربع رجلين وبينونو إلخ.. على الرغم من اتفاقنا على مدلولات الكلمة دي كبني آدمين عايشين في حقبة واحدة وبنتكلم نفس اللغة إلا أن كل واحد هيستحضر في ذهنه شكل قطة مختلف لو سمع الكلمة دي، ده غير المدلولات النفسية المرتبطة بالكلمة دي عند كل واحد.. ممكن كلمة قطة تسعد واحد بس تخوف التاني وتثير التالت وهكذا.
أي كلمة بنستخدمها ليها بعد رأسي وأفقي؛ رأسي يعني تاريخ الكلمة وظهرت ليه وكانت بتستخدم إزاي واتغيرت مدلولاتها لإيه، وأفقي يعني اختلاف دلالة الكلمة من شخص لآخر.. كلمة زي gay مثلًا زمان كانت بتعني شيء مختلف عن اللي بتعنيه دلوقتي، ولحد دلوقتي الكلمة ليها دلالات مختلفة وبتأثر في الناس بشكل مختلف.
المدرسة التفكيكية في الفلسفة واللغويات deconstruction بتشوف اللغة على إنها من أعقد النظم الإنسانية اللي مش بس مرتبطة بعملية التواصل، دي مرتبطة بالوعي الإنساني ككل وإدراكنا لأنفسنا وللحياة حوالينا. واحد زي الأخ ديريدا مثلاً قال إن مفيش حاجة بره النص.. طبعًا هو مش قصده إن كلمة قطة لا تعني وجود كائن بأربع رجلين وبينونو في الواقع، لكنه بيحاول يهدم فكرة سيطرة الواقع على النص/الكلمة لأنه شايف إن لولا وجود الكلمة مكنش هيبقى فيه إدراك لوجود الكائن ده أصلاً.
يعني مثلا تخيل إنك عايش في وجود بلا لغة أو حاجة للتواصل ولقيت قدامك شبشب أخضر وبترتر.. إدراكك لوجود الشيء ده يعتمد على معرفتك لكلمة “شبشب” ولو مش عارفها هيبقى على معرفتك لكلمة “أخضر” و”ترتر”.. بدون المعرفة السابقة دي أنت مش هتدرك وجود الشبشب أصلاً.
خلينا ندى مثال أوقع وعلى نطاق أوسع.. حاجة زي الاكتئاب والهيستيريا والأمراض النفسية، عامًة لو رجعت بالزمن 9000 سنة هتلاقي إن مفيش إدراك بوجود المرض النفسي علشان المصطلح المستخدم للإشارة إليه مش موجود أو ماتطورش لسه.. الكلمة مش موجودة يبقى – حسب إدراكنا – الشيء ده بالتالي مش موجود.
الفكرة إن حاجة بالتعقيد والترسخ ده في وجودنا الإنساني من المستحيل التحكم فيها وتسطيحها لمجرد وسيلة تواصل.